من قتل سامي الحناوي؟
ابراهيم اليوسف
شكل لقب هرشو الذي أطلق على الفتى محمد أحمد باكير البرازي (1920-2015)، وطغى على اسمه الحقيقي الذي يكاد لا يعرف، ولعقود، ما يشبه الأسطورة، في المخيال الشعبي، فقد كانت النسوة يهدهدن أطفالهن بالقول: “نم، قبل أن يأتيك”هرشو!”، ويتردد اسمه في أغانيهن، بل كان يقال لمن يعتد بشدة بأسه وشكيمته: هل صرت هرشو؟ وقد تناقلت الألسنة الكثير من الحكايات التي تتعلق بالفتى هرشو، ابن الأسرة الكردية الحموية، فالأب الحاج أحمد باكير آغا، زعيم قبيلة البرازية العريقة التي تتوزع بين إيران والعراق وسورية وتركيا، وقد برز منها كثيرون، اثنان منهم ترأسا حكومتين سوريتين، هما د. محسن ود. حسني.
وبدأ اسم هرشو يذكر في المجالس، ولا سيما في سورية ولبنان، بعد أن هزَّ هذين البلدين، بل العالم، في يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 1950 نبأ اغتياله للضابط السوري سامي الحناوي (1898-1950) الذي قاد ثاني انقلاب في سورية في عام 1949على الرئيس حسني الزعيم (صاحب أول انقلاب في الذاكرة السورية، بعد بضعة أشهر على وصوله إلى كرسي السلطة) وهو عام الانقلابات السوري الذي حدثت فيه ثلاثة انقلابات، كي ينسب إليه -أي الحناوي- التوقيع على قرار تصفية الرئيس الزعيم ورئيس مجلس الوزراء السوري د. محسن البرازي، رغم أن الحناوي كان من عداد الأصدقاء المقربين إلى الزعيم، بل إنه كان قد رقّاه لقيادة أول لواء سوري. إذ يتم الحديث -هنا- عن محرض آخر، كان وراء هذا الانقلاب الدموي الأول في التاريخ السوري، وهو أكرم الحوراني الذي وصفه كامل مروة بالقول: إنه كان وراء كل انقلاب سوري، والمنقلب على كل انقلاب سوري، نتيجة سايكولوجيته، ولا سيما عندما لا تتحقق أهدافه الشخصية من ذلك، بل تتم الإشارة إلى عصام مريود -الخريج من كلية بغداد والمنسق معها، في مجال الانقلاب، بعد تقاسمه وآخرين مبلغ مائة ألف دينار عراقي لتنفيذ الانقلاب، دون أن ننسى دور الضابط فضل الله منصور -من الحزب القومي السوري- الذي قاد الزعيم والبرازي إلى منزل الحوراني، إذ تم الاعتداء على كل من: الزعيم والبرازي هناك، وفق شاهد عيان، حيث أوعز بدوره بتنفيذ القرار، رغم أن الزعيم كان من أساتذته في كلية الحقوق في جامعة دمشق، وأنه يشيد بفضله عليه، بيد أنه جحد بكل ذلك…!
ولعل ما أوغر صدر العائلة، بل استفزها، وصعقها، أن ابنها الذي نال درجة الدكتوراه من جامعة السوربون، وكان أستاذ القانون في جامعة دمشق، ويعد خبيراً اقتصادياً، نظيف اليد، ولم يقبل بتشكيل الحكومة بعد أن كلفه بها الزعيم إلا مكرهاً، وتحت طائلة الضغط والتهديد، قد راح ضحية الغدر به، من دون أن تتم محاسبة قتلته، بل سرعان ما أطلق سراح الحناوي، بعد أشهر قليلة من الانقلاب عليه، ليفر إلى لبنان، ويلحق به هرشو البرازي، وينفذ فيه قرار العائلة، قصاصاً منه، لاسيما أنه لم يفند الاتهامات الموجهة إليه بمقتل الرجلين، حتى بعد الانقلاب على هاشم الأتاسي الذي سلمه الرئاسة، على أمل سحبها منه، لاحقاً، بل إنه كان رئيس المجلس الحربي الذي تشكل بعيد الانقلاب، وكان قد وقع على قرار إعدامهما بخط يده، كما قيل، ناهيك عن أنه لم تصدر عنه أية إدانة للجريمة التي وقعت، لا أثناء مدة حكمه، ولا بعد انتهائها..!.
ومن الصور المؤلمة، التي يتم الحديث عنها، ما جاء على لسان خالد، نجل د. البرازي، الذي جاء به مداهمو بيته ومنهم المريود وفضل الله منصور، أنهم أخذوه مع أبيه، ليركب إلى جانب الحناوي في سيارة “الجيب” العسكرية الذي قال له: الآن، انتهت مرحلة أبيك، وبدأت مرحلتي، وعندما يأمر المريود مرافق الحناوي بتنفيذ الحكم في أبيه والزعيم، يطلب منه أن يقبل يديه، وينقل منه وصيته، إلا أن هذا الأخير يقول له: لن تعود حياً إن تحركت صوب أبيك، عندما كان على بعد خطوات في ساحة الإعدام..!
يعني اسم هرشو hirço باللغة الكردية الدبّ، وقد غلب على الاسم الأول للفتى محمد البرازي، وكان والده قد أطلق عليه هذا اللقب لما يعرف به -الدب- من القوة، بل ودرءاً له من الحسد، وقد تابع تحصيله العلمي بين حماة ودمشق وبيروت، وقد ورث عن أبيه الكثير من الأملاك إلى الدرجة التي كان يقال فيها: إن إنتاج آل البرازي من الحبوب يكفي بلداً كلبنان، غير أن الرجل رغم ثقافته التي حصّلها، انصرف إلى عالم الفروسية و تربية الخيول في أكثر من مزرعة، إلى جانب عنايته بموهبته في الرمي التي برع فيها، حيث قال عن نفسه في حوار أجرته معه فضائية “الجزيرة” ما معناه: “كنت قادراً على قص الإبرة المشكولة فوق رأس أي شخص”. وقد تحققت نبوءة والده في أن يكون ابنه البكر شجاعاً، فقد عرف بأنه “قبضاي حماة”.
ومما يروى عن هرشو أنه كان قوي البنية، طويل القامة، ذا نظرات ثاقبة، بل إنه كان شديد الاعتداد بنفسه، شجاعاً، لا يتسلل الخوف إلى قلبه البتة، ناهيك عن الكاريزما التي تمتع بها، فقد كانت له علاقات طيبة مع عدد من الشخصيات المرموقة في الوسطين اللبناني والسوري، قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة، وتكون له علاقاته الاجتماعية الواسعة هناك.
أوضح هرشو البرازي في حواره لفضائية “الجزيرة” أنه عندما قام باغتيال الحناوي كان عمره بين السابعة عشرة والثامنة عشرة، أي تم اختياره من بين قاصري الأسرة -سناً- لتخفيف حكم القضاء بحق من سينفذ هذه المهمة العائلية، بينما جاء في “بروفايله” الشخصي أنه من مواليد عام 1920، أي أنه عندما نفذ المهمة كان في الثلاثين من عمره؟!
العائلة تقرر
العائلة البرازية من العائلات العريقة في سورية، وحقاً فقد كان نبأ اغتيال ابنها الذي يعد أحد وجوهها الأكاديمية والعلمية أليماً بالنسبة إليها، بل صادماً لها، لا سيما أن الصراع السياسي في سورية كان غير دموي، حتى عهد الزعيم، رغم اختلاف المواقف إلى أقصى الدرجات. فقد قرر أعيان العائلة التي تبلغ الآلاف، وتتمركز في حماة وحلب وكوباني/عين العرب، ودمشق، والجزيرة وغيرها، أن يتم ترشيح عدد من القاصرين، من أجل تنفيذ اغتيال الحناوي، ولا سيما بعد وصول معلومات أكيدة إلى الأسرة، بلجوئه إلى لبنان. وقد دونت أسماء عدد من الشباب المتطوعين، على قصاصات ورقية، كل باسمه، كي يتم اختيار أحدها عشوائياً، لتقع القرعة على اسم هرشو نفسه الذي سافر مع عدد من فتية العائلة إلى بيروت، لتنفيذ قرار العائلة.
وروى هرشو، عبر لقاءات عديدة، صحافية، وغير صحافية أجريت معه، أنه وخلال عشرة أيام من مراقبة الحناوي الذي استأجر بيتاً في أحد أحياء بيروت، وكان يرافقه بعضهم ومنهم عصام مريود، أحد منفذي الجريمة، لينتقلوا بعدها إلى آخر في شارع محمد الحوت (الحمرا حالياً) ويستأجر هو الآخر بيتاً قريباً منه، بعد أن فشل في عمليتي اغتيال سابقتين، بيد أنه نجح في الثالثة، عندما التقاه في ذلك الشارع، وكان مع عدد من مرافقيه الذين لم يدافعوا عنه، عندما ناداه باسمه: سامي، أنا هرشو، قد أتيتك…!، ثم أشهر مسدسه، ليطلق عليه ثلاث رصاصات أصابته في صدره، وأردته قتيلاً، وكان الحناوي قد مدّ يده -في المقابل- إلى مسدسه لإطلاق النار عليه. بيد أنه سقط مضرجاً بدمائه، كي يمضي هرشو إلى أحد الأبنية القريبة، غير أن الأهالي -هناك- تابعوه، وأحاطوا البناء، ساعات عدة، إلى أن تم إلقاء القبض عليه، واقتيد إلى السجن.
أنا نادم
عندما تم إلقاء القبض عليه، كان من بين أول الوجوه التي التقاها رشيد الصلح الذي كان يعمل محققاً، ويرأسه في العمل بطرس نجيم، وقد تفاجأ القاضي الذي طرح على السيد هرشو السؤال: هل أنت نادم؟ عندما أجابه: نعم، أنا نادم. ليستأنف حديثه قائلاً: نادم، لأني لم أقتل البقية أيضاً، ليحكم عليه بالسجن المؤبد، بيد أن القضاء اللبناني سيعفي عنه، بعد أكثر من سنتين ونصف من السجن، لأن عملية الاغتيال وقعت نتيجة ثأر عائلي، ناهيك عن أن عدداً من أشهر المحامين اللبنانيين من أمثال: إيميل لحود وحبيب أبوشهلة وغيرهما، تولوا مهمة الدفاع عنه، بقوة في المحكمة، وهناك من يتحدث عن وساطة عربية خليجية – سعودية حصراً- لما كانت للبرازي من علاقات مميزة مع القادة العرب، وهو ما دفع بالزعيم لفرض مهمة رئاسة الوزراء على د. البرازي، وأن هذه الوساطة كانت وراء إطلاق سراح الرجل الذي عاش حياته العادية، في ما بعد، بعد أن أصدر رئيس الجمهورية اللبنانية -آنذاك- كميل شمعون قرار عفوه، عندما كان يرأس صائب سلام الحكومة، بعد مرور سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام، كي يستقربه المقام بين سورية ونيوجرسي، حيث قطن هناك الآن أبناؤه، وأحفاده، وليتوقف قلبه عن النبض في هذه الولاية الأميركية في 22 ديسمبر/كانون الأول 2015، وما زالت أسرته تناقش أمر نقل رفاته إلى الوطن، بغرض دفنه، وقد أتيح له أن يشهد بأم عينيه الثورة السورية، وإخفاقاتها.
العربي الجديد