
ميديا أتروباتين: نار كوردستان التي لا تنطفئ
د. محمد عــرب
في قلب الشرق الأوسط حيث تتقاطع ذاكرة الحضارات مع صراعات الجغرافيا السياسية، تمتد أرض تحمل إرثاً عميقاً وشاهدا صامتا على تاريخ طويل من النضال ، إنها ميديا أتروباتين، الأرض التي تُعتبر جزءاً منسياً من كردستان الكبرى ، والتي تحمل بين تضاريسها قصص شعوب لم تنطفئ نارها رغم محاولات الطمس والتهميش. هذه المنطقة، التي تقع اليوم في شمال غرب إيران وتشمل أجزاء من أذربيجان الغربية والشرقية، ليست رقعة جغرافية عابرة للتاريخ بل هي رمز لصراع هوية متجذر في عمق التاريخ.
منذ العصور القديمة، ارتبطت هذه الأرض باسم الميديين، الذين أسسوا أول كيان سياسي قوي في المنطقة في القرن السابع قبل الميلاد ، الميديون شعب بَنَى حضارة مزدهرة عُرفت بتنظيمها الاجتماعي والعسكري المتقدم وهذا الشعب لم يختفِ مع مرور الزمن لكن تحوّل اسمه وتطوّرت هويته ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الشعب الكوردي ، الكورد اليوم هم الامتداد الطبيعي للميديين، ليس فقط في الأرض، بل في اللغة والثقافة والتقاليد التي انتقلت عبر الأجيال.
وتُشير الأدلة اللغوية والأنثروبولوجية إلى وجود روابط عميقة بين الكورد والميديين. اللغة الكوردية بلهجاتها المختلفة تحمل آثاراً من اللغة الميدية القديمة، كما أن العديد من العادات الاجتماعية والتقاليد الثقافية لدى الكورد تُعيدنا إلى جذور ميدية واضحة وهذه الاستمرارية الثقافية والهوياتية تُثبت أن الكورد لم يكونوا مجرد ضيوف عابرين على هذه الأرض، بل هم سكانها الأصليون، الذين حافظوا على إرثهم رغم تعاقب الإمبراطوريات وتغير الحدود السياسية.
اليوم، يعيش في إيران أكثر من 10 ملايين كوردي، يتمركز جزء كبير منهم في أذربيجان الغربية، خاصة في مدن مثل مهاباد، أرومية، وسلماس. ورغم هذا الحضور الكبير، يواجه الكورد سياسات ممنهجة تهدف إلى تقليص تأثيرهم الثقافي والسياسي. تُفرض قيود صارمة على استخدام اللغة الكوردية في التعليم والإعلام، وتُحاصر المحاولات الثقافية للحفاظ على الهوية الكوردية، بينما تتعمد السلطات تشجيع تغيير ديموغرافي يهدف لتقليل الوجود الكوردي في هذه المناطق الحيوية.
التاريخ الحديث للمنطقة مليء بالأحداث التي تُظهر هذا الصراع المستمر. في عام 1946، أعلن الكورد جمهورية مهاباد، كأول محاولة حديثة لتأسيس دولة كردية مستقلة على جزء من هذه الأرض. لم تدم الجمهورية طويلاً، حيث تم احتلالها ، لكن إرثها ظل حاضراً في ذاكرة الكورد كدليل على إمكانية تحقيق الحلم القومي رغم كل التحديات. تجربة مهاباد رسالة واضحة: الكورد لن يتخلوا عن حقهم في تقرير مصيرهم، مهما تغيرت الظروف.
ومع ذلك، لا يقتصر النضال الكوردي في ميديا أتروباتين على الساحة السياسية فقط. هناك حركة ثقافية قوية تسعى للحفاظ على اللغة الكوردية وإحياء التراث الميدي. تُقام مهرجانات شعبية غير رسمية، وتنتشر الأغاني الكوردية التي تحمل بين كلماتها قصص النضال والأمل. حتى الفنون التشكيلية والأدب الكوردي الحديث يستلهم الكثير من الرموز الميدية ليؤكد على استمرارية الهوية الثقافية رغم محاولات الطمس.
على الصعيد الإقليمي، تلعب التحولات السياسية دوراً كبيراً في تشكيل مستقبل الكورد في ميديا أتروباتين. في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط تغييرات جذرية بسبب النزاعات والتحالفات المتغيرة، يجد الكورد أنفسهم في موقف معقد ، من جهة تسعى بعض القوى الإقليمية لاستغلال القضية الكوردية كورقة ضغط في صراعاتها، ومن جهة أخرى تُحاصر السلطات المركزية أي محاولة كوردية لاستعادة دورها التاريخي والطبيعي العادل وهذا التعقيد يجعل من القضية الكوردية في ميديا أتروباتين أكثر حساسية من نظيراتها في العراق أو تركيا وسوريا.
لكن رغم هذه التحديات، يُظهر التاريخ أن الهوية لا تموت بسهولة. الشعوب التي تنتمي إلى أرضها بعمق التاريخ والجغرافيا قادرة على تجاوز المحن، مهما طال أمدها. الكورد في ميديا أتروباتين ليسوا مجرد أقلية تبحث عن حقوق ضائعة، بل هم أصحاب أرض يمتلكون إرثاً تاريخياً عميقاً وهم أحفاد الميديين الذين أسسوا أولى حضارات المنطقة، ويحملون اليوم شعلة النضال للحفاظ على هذا الإرث.
في المستقبل ستحمل التحولات الإقليمية والدولية فرصاً جديدة للكورد في هذه المنطقة ، تصاعد الحركات الاحتجاجية في إيران، بالإضافة إلى التغيرات في موازين القوى العالمية، قد يفتح المجال أمام مطالب جديدة بالاعتراف بالحقوق الكوردية ولكن يبقى التحدي الحقيقي هو كيفية الحفاظ على هذا الإرث التاريخي والثقافي دون الوقوع في فخ الاستغلال السياسي من قبل القوى الخارجية.
ميديا أتروباتين ليست اسم على خريطة قديمة إنها رمز لصراع مستمر بين التاريخ والواقع، بين الهوية والسلطة. هذه الأرض التي اشتعلت فيها نار الميديين قبل آلاف السنين، ما زالت نارها مشتعلة في قلوب الكورد ، يمكن للحدود أن تتغير وللسياسات أن تتبدل، لكن روح الأرض لا يمكن محوها بسهولة. في كل حجر، في كل جبل، وفي كل قصة تُروى حول النار في ليالي الشتاء الباردة، يعيش إرث ميديا، نابضاً بالحياة رغم كل محاولات النسيان.
K24