آراء

نحو صياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع وشامل ( الجزء الثالث )

شاهين أحمد

نلفت عناية المهتمّين الأكارم والقرّاء الأعزّاء بأننا سوف نستمرّ ،وعبر حلقاتٍ، في عرض أهم العقبات التي فرملت جهود الوطنيين المخلصين الهادفة لـ صياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع وشامل ومعبّر عن وجود وحقوق كافة مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية. وبالتالي نأمل أن تثير مواضيع هذه السلسلة ردود فعل إيجابية من جانب نخب شعبنا السوري، ومن مختلف المكونات ، والتفاعل الجدي مع هذا الموضوع لتوليد رؤى وطرح أفكار من شأنها بلورة مشتركات وطنية تشكّل أساساً لإنجاز المشروع الوطني الذي يشكّل المخطط الإنشائي لبناء سوريا الجديدة .

وللتذكير فإننا خصّصنا الجزء الأول منها حول الأسلمة السياسية، والجزء الثاني حول منظومة البعث ودورهما في عرقلة إنجاز المشروع، ونخصّص هذا الجزء حول المعارضة السورية الرسمية وتركيبتها وتوزعها على الجهات المانحة للمال السياسي، وفقدانها للقرار الوطني المستقل، ودور تلك الجهات في عرقلة المشروع المنشود .

كي نكون صريحين وموضوعيين، يجب القول بأنّ المعارضة الرسمية لم تكن أفضل من النظام لجهة افتقارها لرؤيةٍ واقعية جديدة حول ضرورات صياغة المشروع الوطني التغييري الجامع الذي يأخذ بعين الاعتبار وجود وحقوق كافة مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية ، وكما لا يخفى على أحد الأزمة التي تعصف بالمعارضة السورية بمختلف أطرها ومنصاتها – وخاصةً الرسمية المتمثّلة بالائتلاف – سواءً التي كانت تاريخياً خارج منظومة البعث أو تلك التي خرجت من النظام وعليه عقب اندلاع الاحتجاجات الشعبية في منتصف آذار 2011، سواءً الموجودة في مناطق سيطرة النظام السوري، والتي رفضت حمل السلاح أو الموجودة خارج مناطق سيطرته والتي انزلقت إلى مستنقع العنف وحملت السلاح ، وكذلك تلك الموجودة في الجوار الإقليمي والمهاجر والشتات.

وأسباب ذلك بنيوية تتعلّق بتركيبة المعارضة التي كانت غالبية رموزها ومتصدريها من الذين شغلوا مراكز متقدمة في مؤسسات نظام البعث الأمنية والعسكرية والسياسية الهامة طوال عقود، ومن ثم ركبوا موجة الاحتجاجات واحتلّوا مواقع مهمة في مؤسسات الثورة، ومن ثم المعارضة، وعرقلوا صياغة مشروع وطني سوري تغييري بديل.
ومن الأهمية بمكانٍ التذكير هنا بأنّ المعارضة السورية، ونتيجة توزعها على أكثر من لاعب وداعم عربي واقليمي ودولي،

وهؤلاء اللاعبين أنفسهم موزّعين على خنادق متعددة ومختلفة، وهناك خلافات كثيرة وعميقة بين هؤلاء اللاعبين نظراً لاختلاف مصالحهم ،وسبق أن دفعت المعارضة ثمناً باهظاً لتلك الخلافات نتيجة حشر نفسها دون مبرر في الخلافات بين تلك الدول، وحصدت نتيجة ذلك المزيد من الانقسامات العمودية والأفقية في صفوفها وحاضنتها الشعبية .لذلك أول ما يتبادر إلى أذهان المراقبين هو السؤال : هل تستطيع المعارضة الخروج من حقول التابعية والولاءات العابرة للحدود الوطنية السورية؟.

المعارضة ونتيجة فقدانها للقرار الوطني المستقل تحوّلت إلى كرة تتقاذفها أرجل اللاعبين بعيداً عن طموحات الشعب السوري. بدون شك أنّ أي حديث عن استقلالية القرار يبقى نوع من الأمنيات، إن لم تتوفّر جملة مقومات ضرورية لصناعته . وتأتي القيادة الكفوءة من أهم تلك المقومات، وغيابها كان من بين أهم الأسباب التي أدّت بمؤسسات المعارضة إلى هذه الحالة من الضعف والترهل والانقسام والتابعية، .

وبالتالي الشرط الأساسي هو البحث عن قيادة جديدة تمتلك من الصلابة والكفاءة والتسلح بالقيم الوطنية والإخلاص والتضحية، والتاريخ الوطني والنضالي المشرّف. والخطأ الآخر الذي وقعت فيه المعارضة هو الخلط بين أهدافها التي تقتصر في الاستحواذ على السلطة، وبين مطالب وأهداف الثورة التي تتلخّص في التخلص من منظومة البعث بكلّ مرتكزاتها الفكرية والأمنية والسياسية، وبالتالي موقع الإنسان السوري في كلا المشروعين، ودرجة الاختلاف أو الخلاف بين أهداف الشعب من جهة وبين أهداف المتصدرين للمشهد المعارض ومنظومة البعث لجهة شكل الدولة السورية وهويتها وطبيعة نظام الحكم فيها ووجود وحقوق مكونات الشعب السوري والعلاقة بين الدين والدولة …إلخ من جهة أخرى .

وكذلك فشلت المعارضة في تحديد هويتها وهوية الوطن ؛ لأن المشاريع يجب أن تنسجم مع الهوية، وعندما لا تستطيع أن تحدّد وتعرف الهوية لن تتمكّن من صياغة مشروع مناسب لهذه الهوية. وللسوريين تجربة مريرة مع مشروع البعث الشوفيني الإقصائي.

وبناءً على الهوية وانطلاقا منها يتمّ تحديد البوصلة الوطنية التي يجب أن تتحرّك وفق متطلبات الوطن والشعب ومصالحه. لأنّ أية معارضة خارج هذه المساحة تتحوّل إلى مجرد أداة وظيفية يتمّ استخدامها في إطار مصالح الآخرين ولحسابهم ، وتبقى في حقول الرهان والارتهان.

ولا يمكن أن تتحرّك وفق بوصلتها الوطنية إلا إذا امتلكت رؤية وطنية واقعية واضحة ومتكاملة لكافة القضايا الوطنية، وإيجاد حلول منطقية لها كي تتمكّن من ترسيخ مفهوم المواطنة المتساوية ، والتأسيس لأرضية وطنية لإدارة التنوع القائم بحكمة وعقلانية، واعتبار التنوع المذكور ثروة وطنية وركيزة  إيجابية للتنمية ،والخروج من مساحات القلق التي زرعتها العقلية الشوفينية منذ انقلاب البعث قبل ستة عقود.

ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلا من خلال تحرير العقل من قيود وأغلال الموروث الثقافي والفكري المتخلف والمتطرف، وإعادة النظر في مناهج التعليم وتصحيح المراجع التاريخية التي زوّرتها منظومة البعث، والخروج من التخندق الديني والقوموي والمذهبي ، والانطلاق نحو تنويع الشركاء بشكلٍ عام وخاصةً الاستراتيجيين وبما ينسجم مع استقلالية القرار الوطني …إلخ .

ونتيجة العوامل المذكورة تعرّضت مؤسسات الثورة ومن ثم المعارضة لانقسامات قاتلة، وتراجع الاهتمام الدولي بها، وتراجعت شعبيتها .وهنا جدير ذكره أنّ تلك المعارضة فشلت في إيجاد إدارات حكم رشيدة للمساحات التي وقعت تحت سيطرة الفصائل المسلحة التابعة لها ، حيث تعتبر المناطق التي تدار من قبل حكومتها الأسوأ مقارنةً مع مناطق النظام وقسد .

وهناك نقطة في غاية الأهمية وتعتبر من المآخذ على المعارضة بشكلٍ عام والرسمية المتمثلة بالائتلاف بصورةٍ خاصة تتعلّق بتنصلها من الاتفاقيات مثل تلك الموقعة بينها وبين المجلس الوطني الكُردي بتاريخ ـ 27 آب 2013 ،حيث تمّ الاتفاق بأن يكون اسم الدولة هي الجمهورية السورية وأن تكون كافة المراسلات داخل المؤسسات التابعة للائتلاف وحكومته وفق الكليشة ” الجمهورية السورية ” وليست ” الجمهورية العربية السورية ” ولتاريخه لم يلتزم لا الائتلاف ولا حكوماته ولا الهيئات التابعة له ولا الفصائل العسكرية المحسوبة عليه بنص تلك الوثيقة !.

بدون أدنى شك أنّ هناك جملة عوامل كانت سبباً في ضعف المعارضة ولكنها لا تشكّل مبرراً لبقائها ضعيفة، منها ذاتية تتعلّق ببنية مجتمعاتنا التي هي في جوهرها قبلية وعشائرية، محكومة بموروث جامد عصي على التجديد، وتسودها ثقافة المجتمع الأهلي، وتعاني من ضعف ثقافة ومؤسسات المجتمع المدني، مع غيابٍ شبه تام لأسس المجتمع الوطني ،ومنها ما تتعلّق بالعوامل الموضوعية التي تشجّع دوام الصراع والفرقة بين مكونات بلدنا؛ لديمومة التخلف والصراع والحروب . وبالتالي تأثير كل ذلك على قيام حياة سياسية حرة وديمقراطية سليمة ونشوء تعبيرات سياسية – تنظيمية ناضجة ومختلفة وقادرة على التصدي لمهام المرحلة، وتصحيح ما تمّ تشويهه في مجتمعٍ غيب عنه المناخات السياسية والديمقراطية اللازمة، وعاش حالة من التصحر السياسي طوال أكثر من ستة عقود في ظل الشمولية ،وتستغرق الكثير من الوقت، وتحتاج لمزيد من الجهد والإمكانات، وكذلك فإنّ بلورة مشهد سياسي مختلف يحتاج وقتاً أيضاً، لكن بكلّ أسف لم نتلمّس عملياً حتى اللحظة هذا التحول المطلوب في ذهنية غالبية الشرائح المتصدرة للمشهدين الموالي والمعارض، كون ذهنية غالبية المتصدرين مبنية طبقاً للمنطلقات الفكرية لمنظومة البعث .

وبالرغم من إدراكنا أنّ الثورات يصاحبها غالباً تحولات سياسية تؤدّي إلى ظهور ولادات جديدة ومختلفة نسبياً بحكم المواجهة الطبيعية والحتمية بين القوى القديمة للمنظومة الحاكمة وتوابعها من جهة، والجديدة بمختلف تياراتها الفكرية والسياسية من جهة أخرى، ولكن في الحالة السورية ورغم التضحيات الجسيمة والمخاض القاسي جداً بكلّ أسف لم نتلمّس حتى الآن أي أمل في حصول ولادات سياسية – تنظيمية مختلفة،. وبديهي أنّ الثورات عادة تهدم البنى الفكرية والثقافية والسياسية والأمنية للمنظومات الحاكمة ثم تقيم على أنقاضها بنى جديدة مغايرة ، إلا في الحالة السورية مازال المتصدرون للمشهد المعارض يردّدون نفس شعارات البعث والأسلمة السياسية !.

وبما أنّ أي إطار سياسي – تنظيمي يجب أن يكون حاملاً لمشروعٍ سياسي ، وبالتالي فإنّ المعارضة السورية الرسمية كان من المفترض أنها حامل للمشروع الوطني السوري التغييري الجامع ، إلا أنها فشلت أن تقدّم رؤية وطنية مختلفة عن رؤية البعث والأسلمة السياسية، لذلك تحوّلت هي الأخرى (أي المعارضة) إلى عامل إضافي معرقل لجهود الوطنيين الساعين لصياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع لطي صفحة الاستبداد وإقامة البديل الوطني الديمقراطي .
يتبع ….

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “312

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى