نظرية الأمة الديمقراطية تتسبب في نكسة للقضية الكردية إقليمياً
فؤاد عليكو
لقد شغلت القضية الكردية في الدول التي تقتسم كردستان الهاجس الأكبر لها منذ معاهدة لوزان 1923 وحتى اليوم، وقدم الشعب الكردي مئات الآلاف من الشهداء منذ ذلك التاريخ ووصلت بعض ثوراتهم إلى مراحل متقدمة لنيل الحرية للشعب الكردي، مثل ثورة الشيخ سعيد بيران 1925 وثورة آكري بقيادة احسان نوري باشا 1928 في كردستان تركيا وإعلان جمهورية مهاباد بقيادة الشهيد قاضي محمد في كردستان إيران 1946 وثورة البارزاني الثالثة 1961 والتي توجت بنيل الحكم الذاتي في كردستان العراق 1970، إلا أن جميع هذه الثورات أجهدت بتعاون إقليمي واضح وتآمر دولي أحياناً، والثورة الوحيدة التي أثمرت هي ثورة كولان 1976 في كردستان العراق والذي يتمتع فيه الشعب الكردي اليوم بالحرية والكرامة بإقليم فدرالي ضمن العراق.
في آب 1984 أعلن حزب العمال الكردستاني والمعروف بـ (PKK) الثورة في كردستان تركيا مطالباً بالاستقلال التام لكردستان في الأجزاء الأربعة واعتبر كردستان مستعمرة من قبل دول عدة وأن هذه الحدود مصطنعة ويجب إزالتها بالقوة لأن العدو لا يفهم غير هذه اللغة وبذلك أعلن الكفاح المسلح في كردستان الشمالية، وكذلك هاجم كل الأحزاب الكردستانية التي تدعو إلى دون ذلك كمقولة الإدارة الذاتية أو الحكم الذاتي والفدرالية واعتبرت هذه الأطروحات عبثية ورجعية ويخدم الأنظمة التي تغتصب كردستان ووصف المنادين بها بأنهم جبناء وعملاء لتلك الأنظمة وفتح معهم صراعاً دموياً كبيراً.
ولقد كان لهذه الشعار الكبير (تحرير وتوحيد كردستان) الوقع القوي لدى جيل الشباب المتذمر من استبداد تلك الأنظمة مما استقطب نخبة كبيرة منهم إلى صفوف الحزب وقدموا آيات في البطولة في الجبال والسجون، مما دفع بالرئيس التركي توركوت اوزال بالتفكير جدياً بإيجاد حل للقصية الكردية في تركيا كقضية شعب 1993 يبلغ تعداده 12 مليون حسب تعبيره آنئذ، إلا أن الحوار أجهد بوفاة اوزال في ظروف غامضة، وبقيت الثورة مستمرة حتى اعتقال زعيم الحزب عبدالله أوجلان في شباط 1999 عندها حصل تخبط وإرباك كبيرين وخلافات حادة في قيادة PKK وحتى تصفيات بين أجنحتها وحسم أمر القيادة لصالح تيار جميل بايق وإزاحة شقيق اوجلان أوصمان أوجلان عن القيادة، لكن بوادر التغيير في التفكير والمنهج بدأت تتوضح شيئاً فشيئا منذ 2003 حتى توجت أخيراً بابتكار نظرية غريبة عن المجتمع الكردي سميت بنظرية الأمة الديمقراطية والتي تتنكر بموجبها لكل ما هو قومي وتدعو إلى إقامة مجتمع ديمقراطي شامل لكل الجماعات العرقية والدينية والتي هي أقرب إلى مفهوم الأممية الشيوعية التي نادى بها مفكروا الحركة الشيوعية في أواسط القرن التاسع عشر، لكن قيادة PKK مارسوا في البداية ازدواجية في التعبير والخطابة فمن جهة حافظوا على اسم PKK كتراث نضالي واستقطاب للشباب وممارسة شفهية لنفس الخطاب السابق بين الجماهير الكردية للحفاظ على الحاضنة الشعبية ورفدها بالمقاتلين الكرد ومن الجهة الأخرى قاموا بتغيير كل أسماء مؤسساتهم الحزبية وشطبت كلمة (الكردي) فيها واستبدالها بتعبيرات أخرى بعيدا عن الحالة الكردية مثل حزب الاتحاد الديمقراطي PYD وحركة المجتمع الديمقراطي ووحدات حماية الشعب أو قوات حماية الشعب وحزب الحياة الحرة وقوات حماية المرأة وحزب الشعوب الديمقراطية وانسحب التغيير كذلك على الجغرافية الكردستانية مثل باكور وروج آفا وباشور وروج هلات دون أن يرافق التسمية كلمة كردستان لا بل ويرفضون بشكل قاطع عندما يطلب منهم الإضافة معتبرين ذلك انتقاصاً من أهمية نظريتهم في الأمة الديمقراطية، ومن المؤسف القول أن مدلولات النظرية وتطبيقاتها العملية في كانتوناتهم المناطقية في سوريا لا يختلف بشيء عن مفهوم وقانون الإدارة المحلية التي يطبقها النظام في سورية مع فارق بسيط وهو إضافة تعليم اللغة الكردية في المناطق ذات الأغلبية الكردية وهذا ما كان يطالب به الحزب الشيوعي السوري منذ عقود طويلة (تلبية الحقوق الثقافية لأكراد سورية)، وكذلك يقترب كثيراً مع مفهوم المواطنة التي يطرحها المنظمات المدنية والتيارات السياسية المؤسسة حديثاً ـ والتي تحاول ما أمكن تجنب الخوض في مناقشة القضايا القومية العالقة في المنطقة وخاصة القضية الكردية نظراً لتعقيداتها الإقليمية.
ومن هنا نلاحظ أن نظرية (الأمة الديمقراطية) قد أسدل الستار على قضية شعب تجاوز تعداده 40 مليونا ويعيش على أرضه التاريخية ويناضل شعبها منذ قرابة قرن من الزمن لتمزيق معاهدة لوزان 1923 بأيدي أبناءها بكل أريحية وشعور بنشوة الانتصار على معارضيهم من تنظيمات الحركة الكردستانية ويقولون قادة الأمة الديمقراطية علناً اليوم وفي المنابر الإعلامية العربية والعالمية، بأن زمن القوميات قد ولى وأنهم ضد المطالب القومية في كل بقعة من كردستان وتنحصر مطالبهم في الديمقراطية لكل المجتمعات، وبالتأكيد فإن هذا الطرح يلقى قبولاً حسناً لدى الأنظمة التي تقتسم كردستان ومعارضيها بنفس الوقت لأنهم في المحصلة لا يطاليون بشيء اسمه حقوق قومية وعليه ليس غريباً أن يقول الرئيس التركي أردوغان بأنه لا يوجد لدينا قضية كردية وكل ما لدينا مشاكل مجتمعية لا تخص طائفة أو مكون بعينه ونحن نسير باتجاه معالجة هذه المشاكل وفق أسس العدالة والديمقراطية والتفاهم الحاصل بين زعيم الحزب عبدالله أوجلان والسلطات التركية تؤكد ذلك، إذ لا يوجد أي اشارة إلى كلمة الكرد في البنود العشرة المتفق عليه الطرفان، وكذلك لا يوجد غرابة أن يرفض ترخيص حزب عمر أوسي (مبادرة الاكراد السوريين) وهو من اكثر المقربين للنظام السوري بحجة أن الاسم عرقي ويخالف الدستور لوجود كلمة الكردي فيه، بينما في المقابل يقبل عمران الزعبي بالحوار حول الإدارة الذاتية المطروحة من قبل PYD لإدراكهم التام بأنهم أمام حالة لا قومية ولا قضية، كما أن المعارضة السورية مرتاحة أيضاً من مصطلح الأمة الديمقراطية والذي ينسجم تماماً مع طرحهم في المطالبة بالديمقراطية والمواطنة لكل السوريين بعيدا عن الحالة القومية، إضافة فإن هذا الطرح يريح المجتمع الدولي أيضا ولا يسبب لهم بأي حرج في التعامل مع الدول التي تتجاهل الكرد والقضية الكردية، إذ لا يعقل أن يكون المجتمع الدولي ملكياً أكثر من الملك وطالما أن أصحاب القضية تخلو عنها فليس من حقهم مطالبة الآخرين بمعالجة قضية تنكر لها أهلها أو تخلو عنها.
وبما أن PYD هو المسيطر على الجغرافية الكردية في سورية عسكرياً وسياسياً وهمشت الأحزاب الكردية بمجملها سواءً المعارضة لها أو الموالية وبطرق شتى وهي صاحبة القرار في التفاوض مع الآخرين سواء النظام أو المعارضة، وبما أن الثمن المطالب به بسيطاً وغير مكلفاً وتنحصر في المواطنة والديمقراطية فإن ذلك سوف يلقى قبولا ورواجاً من الجميع سواء النظام أو المعارضة، ونفس الحالة ينطبق على وضع القضية الكردية في تركيا، وبالتالي سوف ينحسر الأحزاب المطالبة بالحقوق القومية في زوايا ضيقة ومواقف حرجة لا يكترث بها أحد ولا بمطالبها وتذبل تدريجياً حتى تتلاشى وتتلاشى معها القضية الكردية لكن إلى حين، ويشعر اصحاب نظرية الأمة الديمقراطية (المواطنة) بالنشوة وكأنهم انتصروا لكنهم انتصروا على قضيتهم و سيندمون يوم لا ينفع الندم، يوم يدرك الشعب الكردي أن دماء آلاف الشهداء ذهب هدرأً على مذبحة (الأمة الديمقراطية) وأنهم لن يجنوا منها سوى الشوك والركض وراء السراب والأحلام.