واقع التشرذم السوري وانعكاسه الزمني والمكاني على عملية الانتقال السياسي
Yekiti Media
د. سميرة مبيض
يخضع الواقع السوري اليوم للتشرذم الجغرافي، والذي يرتبط به بشكلٍ مباشر تباعد على المحاور الاجتماعية، السياسية، العسكرية، النظام القضائي، والمحاور الإدارية في سوريا.
هذا التشرذم الجغرافي ليس وليد اليوم بل يعود إلى قرنٍ من الزمن نتيجة للاتفاقيات التي أدّت لتقسيم سوريا وفق معادلات مصالح دولية لم تأخذ بعين الاعتبار مصلحة السوريين ولا الارتباط المكاني لاستقرارهم بوجود مساحاتٍ قابلة للحياة وضمان المنافذ البرية والبحرية وتوزّع الموارد بما يضمن التنمية والازدهار للشعب السوري بمختلف أطيافه. كما أدّت حقبة حكم الأسد إلى تراجعٍ إضافي بمساحة سوريا لقاء صفقات عقدها بمقابل هيمنته على السلطة، وأخيراً أدّى عقد من الثورة والحرب إلى تشرذم فعلي للأراضي السورية، وتبعيةٍ تدريجية لكلّ منطقة نفوذ مُحدثة إلى جوارها الخارجي، بحكم احتياجاتها وبحكم انفصالها الوظيفي عن مركز ثقل اقتصادي وسياسي من دون تحضير لأي بدائل محلية. كما أدّى وجود ارتباط إقليمي ودولي لكلٍّ من هذه المناطق ضمن توجّهاتٍ دولية سياسية متخالفة ومتباينة فيما بينها إلى تدويل الصراع السوري وترجمته بصراعاتٍ على الأراضي السورية بالوقود البشري السوري وبالموارد السورية.
هذا التشرذم الجغرافي الواضح اليوم رسّخ واقع الانقسام الاجتماعي والناجم عن عدة عوامل أهمها غياب وجود فترة كافية من الاستقرار في سوريا لتسمح ببناء الهوية التعدّدية المنبثقة بشكلٍ طبيعي عن تواجد الانسان السوري في إطارٍ يجمع تعدّدية مذهبية وقومية وثقافية، هذه التعدّدية التي لبثت غائبة عن كافة الدساتير السابقة. كما أدّت فترة حكم الأسد الى فرض هويةٍ شمولية على حساب التعدّدية حيث عمل منذ الثمانينات من القرن الماضي بحلفٍ وثيق مع النظام الناجم عن الثورة الايرانية على تدمير المجتمع السوري وهويته عبر وسم الثقافة العربية بالعنصرية والعدوانية والتقهقر وزرع الفتنة والكراهية باستمرارٍ مما أدّى لشروخٍ مجتمعية بين الأديان والطوائف وبين القوميات والثقافات المختلفة. هذه الشروخ التي ستحتاج للزمن ولأدوات سياسية ومدنية وإعلامية وتعليمية وثقافية لردمها ولترميم النسيج المجتمعي المتنوّع. كما أدّى العقد الأخير من الصراع المسلّح في سوريا إلى ازدياد التفرقة بين مكونات المجتمع السوري والى تعميم ثقافة الكراهية والتدافع السلبي مما رسّخ الانقسام المجتمعي وأصبح يهدّد وحدة الشعب السوري والأراضي السورية.
كما ارتبط واقع التشرذم الجغرافي القائم اليوم بتباعدٍ سياسي واضح بين السوريين في هذه المناطق، فأصبح هناك أحزاب وتيارات سياسية محلية في كلٍّ منها، هذا التباعد السياسي الداخلي يرتبط بدوره بتباعدٍ واضح في السياسات الخارجية فبالإضافة لما اتّسم به نصف القرن الأخير من تصحّرٍ في الحياة السياسية فإنّ الأطر المعارضة التي تأسّست ضمنه تدور في فلك نظام الأسد وتصنع بمجملها منظومة واحدة أدّت لتقييد ولانعدام الحياة السياسية وفشلت بتمثيل الشارع السوري وحراكه.
فقد شَهِدَ عقد من الثورة على عدم إمكانية أيٍّ من هذه التيارات على تحقيق التغيير الجذري المطلوب في سوريا نتيجة لبنيتها المتقاربة من بنية النظام الشمولي والقائمة كأقطاب مقابلة له وعلى عدم امكانيتها على التفاعل بشكلٍ بنّاءٍ فيما بينها فكانت نتيجة ذلك حالةً من العدمية السياسية وتقهقر على المستويات السياسية الداخلية والخارجية. فلا يمكننا اليوم الاعتماد على الأطر السياسية التقليدية الموروثة من حقبة الأسد كأطر تمثيلية بحكم أنها لا تستطيع الاستجابة لتحديات المرحلة.
كما يرتبط واقع التشرذم الجغرافي في سوريا اليوم بواقع تشرذمٍ عسكري مكاني بوجود قوى متباينة تسيطر على مناطق جغرافية محدّدة وتشرذم عسكري مرجعي أيّ مرجعية كلّ من هذه القوى ومصادر تمويلها وولاءها مختلفة ومتباينة كما تتسم هذه المناطق بوجود نظم قضائية محلية تسير شؤون السوريين ضمنها وفق مرجعيات مختلفة وترتبط كلاً منها بالمرجعية السياسية التي تسيطر كقوى أمر واقع. وتتسم هذه المناطق بوجود إدارات مختلفة لكلٍّ منها تتضمّن إدارة الشؤون المتعلّقة بالحياة المدنية اليومية من تعليم وصحة واقتصاد وصناعة وزراعة واعلام وثقافة وتموين وغير ذلك.
هذا التشرذم المكاني، السياسي، العسكري، الإداري والقضائي لا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال تجاوزه أو التغاضي عنه في المرحلة الانتقالية، بل يفترض تأقلم عملية الانتقال السياسي معه ومع الزمن اللازم للسوريين لبناء هوية ما بعد التشرذم، هوية جامعة لشعب يعيش بنطاقٍ جغرافي واحد ويتقاسم التاريخ ويستخدم المحيط المُشترك من حوامل وموارد للحياة لتنظيم وجوده ولاستمراريته، وإيجاد صيغة حكمٍ تضمن لسوريا الوحدة والنهوض والتقدم.
من هذه المنطلقات قد تكون مرحلة انتقالية متتالية عبر مستويين جغرافيين ومرحلتين زمنيتين أكثر توافقاً مع الواقع وقابلية للتطبيق، بحيث يقودها هيئة حكم تعددية للحكم الانتقالي بصلاحيات كاملة لها تمثيل محلي في كلٍّ من هذه المناطق المتباينة وتبدأ المرحلة الأولى بشكلٍ محلي متوازي في هذه المناطق وضمن السيادة السورية وبإشرافٍ من القوى الدولية الموجودة ضمنها بما يضمن إنهاء وجود أيّ أقطابٍ للتطرّف والوصول لاستقرارٍ محلي يضمن الأمن والسلم الأهلي عبر قوى محلية لتجاوز مخاوف وتوجسات السوريين من الفوضى والفلتان الأمني كما يضمن إمساك القوى المدنية بزمام إدارة الأمور وبدء عودة اللاجئين وتحقيق العدالة والبدء بالتحضير لمشاريع تنمية ونهوض اقتصادي محلي ضمن الاطار الوطني الشامل.
وتليها المرحلة الثانية، المرحلة الانتقالية الوطنية بمدةٍ زمنية ملائمة لتتمّ تحت سيادةِِ سورية وتتضمن خروج القوى العسكرية الخارجية وإعادة هيكلة وانتاج مؤسسات الدولة بما يضمن وحدة أراضيها واستعادة كامل السيادة واستقلال القرار وتأسيس مجلس شيوخ وبرلمان سوري يضمنان تمثيل كافة المناطق والأطياف السورية وإجراء انتخابات شفافة تعبّر عن تطلّعات الشعب السوري وتعوّض خسارة سوريا وأبناءها وتفتح الأفق لمسارٍ جديد
ومستقبل يتسم بالسلم والاستقرار والازدهار
المصدر: Nawat syria