وعود أوباما التبشيرية لم تنفع عالمنا بشيء
عبد الباسط سيدا
سألت ديبلوماسياً أوروبياً كان قد عاد لتوّه من نيويورك، حيث كان في أجواء اجتماعات مجموعة فيينا وتابع من هناك ردود الأفعال التي تمحورت حول قرار مجلس الأمن 2245 الخاص بسورية، عن وجهة نظره بخصوص القرار المعني، فكان جوابه أن القرار جاء ليجسّد رغبة أميركية، من باب رفع العتب، بهدف الظهور بمظهر من فعل شيئاً من أجل سورية إبان رئاسة الولايات المتحدة لمجلس الأمن. وهذا فحواه أن القرار لا يقدّم و لا يؤخر، طالما أن الإدارة الأميركية متمسّكة بانكفائها، وروسيا مستمرّة في اندفاعها.
شعرت من خلال تشعب الحديث، وتناوله مسائل متعددة، أن حالة من الإحباط من الموقف الدولي، والأميركي تحديداً، مشتركة بيننا، فسألته عن الموقف الأوروبي، كما سألته عن سبب تراجعه، إن لم نقل هلاميته وضبابيته، فكان جوابه: صورة العالم اليوم هي كالتالي: أميركا هي التي تقود، وروسيا تجلس بجانبها في المقعد الأول. بينما نحن الأوروبيين نجلس في المقعد الخلفي.
وأميركا يقودها الرئيس أوباما الذي أتحف العالم وأذهله بخطاباته الأخلاقية، وتركيزه على ضرورة التغيير، والتعاون الدولي، والتكاتف بين سائر الشعوب، الكبيرة منها والصغيرة، وذلك لمواجهة الحروب والفقر والتطرف والجريمة وسائر الشرور. وكم تفاءلنا بدعوته إلى تجاوز التعصب الديني والمذهبي، ومطالبته بهدم الجدران التي تفصل بين الشعوب والثقافات.
ولعل خطابه الشهير الذي ألقاه في برلين أمام بوابة برانبدبورغ صيف 2008 اثناء حملته الانتخابية الأولى يُعد النموذج الأمثل لأرقى الخطب التي لم يلتزم أصحابها مضامينها. فقد بشّر ببزوغ فجر جديد في الشرق الأوسط، ووعد بمساندة الإسرائيليين والفلسطينيين للوصول إلى سلام مقنع عادل، كما وعد بمساعدة الشعب العراقي لتجاوز المحنة وبناء البلد. كا طالب بضرورة الوقوف إلى جانب شعوب المناطق المنسية في العالم في مواجهتها الفقر وتبعاته، ودعا إلى الحد من التجاوزات في دارفور، ووعد ووعد… لكنه لم يلتزم أي وعد من وعوده تلك، كما لم يلتزم لاحقاً تلك الوعود التي قطعها على نفسه في خطابيه في كل من اسطنبول ربيع 2009، والقاهرة صيف 2009، وذلك بعد أن أصبح رئيساً للولايات المتحدة .
وبالعودة إلى خطاب برلين، أذكر هنا أنني كنت اتابعه عبر التلفزيون مع صديق سويدي، ديبلوماسي متقاعد، وقد كنا حيئنذٍ في مدينة فيتزبورغ الألمانية حيث نحضر المؤتمر الدولي الـ 54 للآشوريات. كنا سعداء حتى الثمالة بالخطاب المفعم بالنزعة الإنسانية الانفتاحية، وكنا على ثقة، تبين في ما بعد بكل أسف بأنها لم تكن مبررة، بأن أميركا أحسنت الاختيار. فقد كانت كل الاستطلاعات تشير إلى فوز أوباما وتصالح أميركا بالتالي مع تاريخها. وأعتقد بأن الجمهور الكبير الذي حضر إلى الساحة البرلينية الشهيرة للاستماع إلى الخطاب، كما ملايين الأشخاص الذين تابعوه عبر شاشات التفلزة في مختلف أنحاء العالم، كانوا مأخوذين جميعاً بالنفحة التبشيرية، وبالنَفَس الجديد الذي اعتقدنا بأنه سيكون عاملاً من عوامل إعادة التوازن إلى عالمنا المختل نتيجة تفاقم النزعة الاستهلاكية المتوحشة، والتراجع المريع في ميدان القيم، واتساع الهوة بصورة لم يشهدها عالمنا من قبل بين مستوى تطور العلوم التقنية والعلوم الإنسانية. فالأولى تحوم راهناً حول تخوم مملكة ما كان يُعد مستحيلاً، إن لم نقل إنها تمكنت من اختراقها في أكثر من موقع، فيما الثانية تكوّرت على ذاتها، ووجدت نفسها في موقع المدافع عن شرعية وجودها أصلاً أمام النزعة الاقتلاعية الهائجة التي تتعامل مع القيم الإنسانية الناظمة لبنية المجتمعات على مستوى الجماعات والأفراد وكأنها علائم رومانسية، تخص مرحلة انصرمت وانقضت.
وما أذكره من حديث صديقي السويدي الخبير بقضايا منطقتنا، بخصوص خطاب أوباما في برلين، أن صدقية الأخير ستكون على المحك من خلال سعيه الجاد نحو حل للصراع العربي الإسرائيلي في السنة الأولى من حكمه، وإلا فإن وعوده ستبقى مجرّد وعود جميلة انتخابية ليس إلاّ، وهذا ما حصل بكل أسف.
فها نحن اليوم في السنة الأخيرة من حكم أوباما بعد دورتين رئاسيتين، ولا نرى أي إنجاز حقيقي يسجّل للرجل سوى اتفاق هش أعرج مع إيران حول الملف النووي. خلال العام سيغادر أوباما البيت الأبيض وقد تحوّل الشرق الأوسط إلى جحيم، والمآسي في درافور ما زالت مستمرة، كما أن مشكلات العالم قد تفاقمت، ولم ترتق العلاقة مع أوروبا إلى مستوى الوعود التي أطلقها، بل ما حصل أن روسيا استغلت السلبية الأميركية، وباتت تتمدد أوروبياً، وبدأت بتعزيز مواقعها في الشرق الأوسط لتكون مستقبلاً قوة تعكّر صفو الأوروبيين، وتضعهم من جديد في مواجهة هواجس الحرب الباردة ومستوجباتها.
أما على الصعيد السوري، فساهمت سياسة أوباما، بالتفاعل مع همجية وخطط النظام وحلفائه، في تزايد حدة التطرّف، وانتشار الإرهاب بكل أشكاله. وجاء العدوان الروسي ليضفي المزيد من التعقيد على المعقّد أصلاً، ويدفع بالتطرف والتشدد نحو الذروة. وهذا مؤدّاه إنهاك شعوب المنطقة على مدى عقود مقبلة.
ويبقى السؤال المحوري: لماذا كان ما كان؟
هل هي خطة أميركية بعيدة المدى، تعجز ملكاتنا الذهنية المحدودة عن استيعاب أسرار مغاليقها؟ أم انها أخطاء إستراتيجية مردّها سوء التقدير أو نقص المعلومات، أو ربما انعدام الإرادة؟
سياسة أوباما بنزعتها النجومية، وركائزها وتبعاتها وتداعياتها، ستكون من دون شك موضع بحث ومتابعة لمراكز البحث ودوائر صنع القرار الأميركية مستقبلاً. أما شعوبنا فهي التي دفعت وستدفع الضريبة الأغلى والأقسى في عالم الحسابات والمصالح المغلّفة بقيم التزييف والتضليل.
عن الحياة اللندنية