ويبقى الحل السلمي العادل للموضوع الكُردي في تركيا هو المخرج
عبدالباسط سيدا
لقد أثارت خطوة قيام وزير العدل في حكومة حزب العدالة والتنمية التركي، بكر بوزداغ، بزيارة مقر حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يُعدّ الحزب الثالث من جهة عدد مقاعده في البرلمان التركي؛ جملةً من التكهنات، تمحورت بصورةٍ عامة حول إمكانية إحياء العملية السلمية بين الحكومة التركية وPKK.
وهي العملية التي يبدو أنّ قوى معينة داخل PKK ، وأخرى ضمن الدولة التركية، هذا إلى جانب قوى إقليمية ودولية في مقدمتها إيران، لم تكن موافقة عليها أصلاً؛ وإنما كانت تجد فيها تهديداً على مواقعها ومصالحها، لذلك أسهمت من مواقعها المختلفة في عرقلتها، ومن ثم إيقافها، الأمر الذي انعكس سلباً على الدولة والمجتمع في تركيا، وأثّر سلباً على واقع الكُرد في دول المنطقة، خاصةً في تركيا وسوريا والعراق، وحتى في إيران.
ولكن سرعان ما كانت عملية التفجير الإرهابية في شارع الاستقلال في اسطنبول (13-11-2022)، وهي العملية التي اتّهمت فيها السلطات التركية حزب العمال الكُردستاني، في حين أنّ هذا الأخير أنكر صلته بها. وكذلك فعل فرعه السوري: حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يتحكّم من خلال كوادر حزب العمال نفسه بـ “الإدارة الذاتية”، كما يتحكّم بـ “قسد”.
ومن ثم جاءت عمليات القصف التركية الانتقامية لعددٍ من مواقع الحزب المعني، وعددٍ من الأماكن في المناطق الحدودية في كلٍّ من سوريا والعراق. وهي عمليات تثير التساؤل حول الموقف الأمريكي المعلن ، رغم التصريحات العلنية العامة التي دعت إلى ضبط النفس، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الموقف الروسي.
ومرةً أخرى يُستنتج وجود أطراف، سواءً ضمن PKK، أم ضمن الجيش والأمن التركيين، أو أطرافٍ خارجية، لا تجد، من مواقع مختلفة، مصلحةً لها في أي مقاربةٍ سلمية للقضية الكُردية في تركيا.
ولكن رغم كلّ ما حصل، ويحصل، يبقى الحل العادل السلمي للقضية الكُردية في تركيا هو المطلوب المفيد، لأنه سيساهم في تغيير الرؤية الأساسية في الاستراتيجية التركية المتبعة في المنطقة.
إذاً لن تغدو القضية الكُردية مشكلةً لا بدّ من التخلص منها، وإنما ستصبح في سياق المعالجة الموضوعية المقبولة لها، جسراً للتواصل مع مجتمعات المنطقة باعتبار أنّ الجغرافيا الكُردية الأكبر، والكتلة الكَردية البشرية الأكبر تقعان في تركيا.
ولعله من نافل القول هنا التذكير مجدداً بأنّ حل المسألة الكُردية في تركيا سيساهم في ترسيخ مرتكزات الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها، ولصالح الجميع بعد عقودٍ من الصراعات والحروب، تمثّلت حصيلتها في إزهاق الكثير من الأرواح وتبديد الكثير من الموارد، الأمر الذي انعكس سلباً على مقدمات وضرورات عمليات التنمية في المنطقة، وهي العمليات التي كان من شأنها فتح الأبواب أمام أجيالها المقبلة عبر القطع مع أساليب التجييش بمختلف أشكالها.
ولكن ذلك لن يتحقّق طالما ظلّت العقليات التي تتحكّم بتوجيه الأمور هنا وهناك على حالها، وكان اللجوء إلى العنف هو الوسيلة الرئيسة في حسم الخلافات.
الحلّ المطلوب والمفيد، لتجاوز وضعية التصعيد بين تركيا و PKK وواجهاته المختلفة في المنطقة، هوالعودة إلى العملية السلمية المشار إليها التي توقّفت لأسباب متعددة كما أسلفنا.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى وجود تباين واضح اليوم بين تعليمات وأوامر قيادة PKK في جبال قنديل، وتوجهات حزب الشعوب الديمقراطي وكوادره في تركيا.
فالكثير من الكُرد الذين انضمّوا إلى هذا الحزب الأخير وجدوا فيه إطاراً سياسياً مناسباً للدفاع عن الحقوق الكُردية، وحقوق الأقليات القومية والمذهبية الأخرى في تركيا، والعمل على تأمينها عبر احترام قواعد اللعبة الديمقراطية والنظام العلماني المعتمَد في البلد، هذا رغم الكثير من الملاحظات والثغرات، خاصةً بعد اعتماد النظام الرئاسي، وتقييد حرية الصحافة، والتضييق على الكثير من نشطاء حقوق الإنسان والمجتمع المدني تحت شعار محاربة الإرهابيين والإنقلابيين.
والحكومة التركية، تستطيع في هذا الإطار، إذا كانت لديها الرغبة، أن تقدّم مشروعاً يجسّد وجهة نظرها حول الحلّ الذي تراه مناسباً ممكناً للقضية الكُردية في تركيا، يكون أساساً للحوارات والمناقشات التي يُفترض أن تكون بينها وبين حزب الشعوب الديمقراطي، ومن خلال هذه المناقشات والحوارات يتمّ تعديل أو تطوير الأفكار المقدّمة في ورقة الحكومة التركية. ويمكن مستقبلاً توسيع دائرة المتحاورين لتشارك الأحزاب التركية والكُردية الأخرى من داخل البرلمان وخارجه، حتى يكون هناك توافق وطني عام حول الحلّ المقترح لموضوعٍ يهمّ الجميع.
وفي هذا المجال يمكن للجانب الأمريكي، وبالتعاون مع الأوروبيين، أن يبذل الجهد مع حزب العمال الكُردستاني، عبر واجهاته السورية، لإقناعه بضرورة دعم العملية السلمية، أو على الأقل عدم السعي من أجل تفجيرها بالتنسيق المباشر، أو غير المباشر مع القوى المتضرّرة منها، سواءً في الداخل التركي أم في الجوار الإقليمي.
وإذا أسفرت الجهود في نهاية المطاف إلى اعتماد حلٍّ عادل مقبول للموضوع الكُردي في تركيا، ضمن إطار وحدة البلد والشعب، فهذا سيكون لصالح مختلف الأحزاب السياسية والمكونات المجتمعية في تركيا، كما أنه سيساهم في فتح الآفاق أمام حلٍّ مطلوب في سوريا، وسيدعم الجهود السياسية من أجل تحقيق الاستقرار في العراق على أساس احترام السيادة الوطنية، وفتح الآفاق أمام تنميةٍ اقتصادية تساهم في حلّ مشكلات العراق بعيداً عن مخاطر الفساد الأسطوري الذي يلتهم المقدرات. وكلّ ذلك يمكّّن المنطقة من الاستعداد لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية في ظلّ استمرارية وتصاعد انتفاضة الإيرانيين المناهضين لحكم الاستبداد والفساد؛ وفي أجواء الحرب الروسية على أوكرانيا، وتفاعلاتها ومخاطرها.
أما إذا استمرّ حزب العمال في نهجه الحالي، فإنه سيساهم في المزيد من الانهيارات على المستوى الكُردي وعلى مستوى المنطقة بصورةٍ عامة. فتركيا في نهاية المطاف، هي دولة إقليمية أساسية، حظيت بدورٍ مهم في الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وهي اليوم تعود إلى هذا الدور من بوابة الحرب الروسية على أوكرانيا، واحتمالات اتساع نطاقها.
هذا في حين أنّ الولايات المتحدة الأمريكية من ناحيتها، وبوصفها القطب الأكبر على مستوى العالم، ستلتزم في نهاية المطاف بمصالحها الاستراتيجية،. وهذا أمر من المفروض أن يدركه جيداً PKK ؛ خاصةً أنه بطبيعته حزبٌ براغماتي انتهازي، يغيّر المواقع، والشعارات من دون أن حرجٍ.
هل ستكون هناك مراجعة نقدية ضمن الحزب المذكور على أسس عقلانية موضوعية، أم ستستمر لعبة الشعارات والاتهامات المنسجمة مع التزاماته مع حلفائه الإقليميين الأساسيين: السلطة الأسدية ونظام ” ولي الفقيه” في إيران؟
هل سنشهد تناغماً بين حزب العمال الكُردستاني والقيادات السياسية في حزب الشعوب الديمقراطي بعد أن يصل هذا الأخير إلى قناعةٍ باستحالة التوفيق بين توجّهه السياسي الديمقراطي في حلّ الموضوع الكُردي في تركيا، وبين النزوع العسكري التسلطي لقيادات قنديل؟
من جهةٍ أخرى، هل سيقتنع حزب العدالة والتنمية بضرورة وأهمية الوصول إلى حلٍّ عادل على المستوى الوطني العام للموضوع الكُردي؟ أم أنه سيظلّ يتعامل مع الموضوع كورقةٍ انتخابية لتحقيق مكاسب حزبية، هذا في حين أنّ المطلوب هو حلٌّ شامل يضمن الأمن والاستقرار، ويفتح الآفاق لتنميةٍ مستدامة، يستفيد منها الشعب التركي بكلّ مكوناته وفي جميع المناطق؟
أسئلة مشروعة ملحّة، في انتظار الإجابات التي ستساهم أحداث الأيام المقبلة في صياغة خطوطها العريضة.
المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 304