
كردستان: شتان بين الحلم والعَلَم
صبحي حديدي
حين توصف مدينة كركوك بـ»قدس الكرد» (وثمة، بين بعض أهلها، مَنْ يصرّ على حرفية اللفظ التوراتي: «أورشليم الكرد»!)؛ فذلك لأنّ الشخصية الكردية اقترنت بالمدينة، فعلياً، منذ آلاف السنين، وعبر موجات هجرة واستيطان وسكنى عديدة ومتعاقبة. وإلى جانب أنها احتوت على الكثير من فصول تاريخهم القديم والوسيط والحديث، فإنّ المدينة مرشحة أولى لموقع العاصمة الحتمية لأية دولة كردية مستقلة قادمة؛ ليس لأسباب تاريخية ـ ثقافية، وديمغرافية، وجغرافية، فحسب؛ بل لأسباب اقتصادية أيضاً، وأساساً ربما… يساجل البعض. هذه المنطقة هي أقدم مواقع استخراج النفط العراقي، وأغزرها، ويعلم الجميع اليوم أنّ احتياطيها يُعدّ بمليارات البراميل.
المنطق، استطراداً، يشير إلى أنّ الكرد أنفسهم مستعدون للانخراط في اقتتال داخلي من أجل السيطرة على المدينة وثرواتها النفطية الهائلة، إذْ من المعروف أنّ الوئام الحالي بين الحزبين الرئيسيين، «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و»الاتحاد الوطني الكردستاني»، يخفي خلافات حادّة وجوهرية دفعتهما في الماضي إلى مواجهات مسلحة دامية أسفرت عن الكثير من الخسائر البشرية والخراب المادي. فإذا جاز هذا الافتراض، فإنه ـ ضمن المنطق إياه، بالطبع ـ يجيز ترجيح مواجهات أخرى بصدد كركوك، مع السلطة المركزية في بغداد أولاً؛ ثمّ مع قوى إقليمية جارة، مثل تركيا وإيران.
للأتراك ذرائع تاريخية وثقافية تصلح أقنعة جبارة لتبرير أطماعهم الاقتصادية في المنطقة، إذْ أنّ كركوك تضمّ أكثر من نصف مليون تركماني (وأنقرة تتحدّث عن مليون!)، تعود أصولهم إلى الأرومة التركية ذاتها، بل ويعتبرون كركوك عاصمتهم التاريخية أيضاً. وإذا كانت تركيا، أياً كان الحزب أو التكتل الحزبي الذي يحكمها، لا توافق أبداً على مبدأ قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق؛ فكيف لها أن تسمح للكيان الكردي الحالي بحيازة أرض تحتوي على ثروات خرافية، تجعل من الكرد قوّة اقتصادية عظمى على صعيد إقليمي؟
على صعيد تاريخي، وفي ما يخصّ مواقف القوى العظمى من حقّ الكرد في إقامة دولة مستقلة (وبالتالي تسمية كركوك عاصمة لها)، فإنّ السجلّ ليس كابحاً للحلم فقط، بل تميّز بسلسلة طعنات في الظهر، وخيانات متتالية، عظمى بدورها! ففي عام 1918، نصّت مبادئ الرئيس الأمريكي وودرو ولسون على حقّ تقرير المصير لكلّ الأقليات غير التركية في ظلّ الدولة العثمانية. وفي عام 1920، نصّت اتفاقية سيفر على إقامة دولة كردية، لكن اتفاقية لوزان للعام 1923 ألغت بنود اتفاقية سيفر وتمّ توزيع المناطق التي يعيش فيها الكرد على الاتحاد السوفييتي وتركيا وإيران والعراق وسوريا. وفي عام 1924، اعترفت بريطانيا بحقّ الكرد في تأسيس دولة مستقلة، دون أن تتخذ أية خطوة عملية في هذا السبيل.
على صعيد العقود الراهنة، في عام 1975، وبعد أن توصل العراق إلى تفاهم مع إيران بموجب اتفاقية الجزائر، تخلّت إيران والولايات المتحدة عن دعم الكرد (بناء على نصيحة مباشرة من وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، هنري كيسنجر). وفي عام 1988 سكتت الولايات المتحدة وبريطانيا عن قصف بلدة حلبجا الكردية بالغازات السامة، بذريعة أنّ المصالح الحيوية الأمريكية تقتضي الحفاظ على استقرار النظام العراقي. ولا تُنسى، بالطبع، خيانة شباط (فبراير) 1991، حين دعا الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب الكرد إلى التمرّد على سلطة صدّام حسين، ثمّ تخلى عنهم.
والإنصاف يقتضي القول إنّ السواد الأعظم من الساسة الكرد العراقيين أدركوا أنّ إقامة دولة كردية مستقلة ليس في صالح الجماهير الكردية على المدى الراهن، أو القريب المنظور؛ والفكرة، بالتالي، فردوس معلّق ينتظر إنضاج المزيد، والكثير، من الشروط المواتية.