آراء

الحرب الروسية – الأوكرانية.. حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر

فؤاد عليكو

لم يتوقّع بوتين قطعاً أن يطول أمد التدخل العسكري لقواته في أوكرانيا، على غرار ما حصل معه في جورجيا ٢٠٠٨ وجزيرة القرم ٢٠١٤م وكانت كلّ معادلاته الحسابية وشبكته الاستخباراتية تؤكّد بأنّ الغرب لن يتدخّلوا عسكرياً لصالح الأوكرانيين، وأنّ الموقف لايتجاوز عبارات الإدانة والاستنكار وفي حدّه الأقصى بعض العقوبات الخفيفة التي سيزول مفعولها مع مرور الوقت، لذلك زجّ بقواته العسكرية مستخدماً منطق سرعة إنجاز المهمة بأقصر فترةٍ ممكنة، واعتبار ذلك عملية عسكرية لا أكثر، ومن ثم تنصيب الرئيس السابق لأوكرانيا الموالي لروسيا مكان الرئيس الحالي، على غرار ما حصل في كازاخستان العام المنصرم، ثم تهدأ الأمور تدريجياً، وبذلك يقطع بوتين الطريق على أوكرانيا من التفكير بالاقتراب من الاتحاد الأوربي أو من حلف الناتو ،تأكيداً واستكمالاً لنظريته على توسيع المجال الحيوي الاستراتيجي لروسيا المستمدّ من أفكار فيلسوفه “ألكسندر دوغين” ولن يتحقّق ذلك إلا إذا ضمّن بقاء أوكرانيا في دائرة المجال الحيوي الروسي، خاصةً وأنه ضمّن جانب الجبهة الجنوبية بعد الانتهاء من تمرّد كازاخستان عليه وإرسال رسالة قوية إلى بقية الدول المجاورة لها مفادها بأنّ التفكير بالابتعاد عن روسيا هو لعب بالنار ولن يمرّ بسهولة، كما أنه قام ببناء علاقات قوية مع إيران، وقام بمشاركتها في السيطرة التامة على سوريا الأمر الذي ضمّن له حرية التحرك في المياه الدافئة بسهولةٍ وهو ما حَلَمَ به القياصرة الروس منذ زمنٍ طويل، وبذلك ظنّ بوتين بأنه لم يبقَ أمامه سوى السيطرة على أوكرانيا، ليعلن بصوت عالٍ بأنّ عصر القطب الواحد قد ولّى للأبد، وأنه على الجميع أن يعترفوا بذلك ويعلنوا صراحةً باستعادة روسيا لدورها الأساسي في المعادلات الدولية، كما كانت في زمن الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية وقبلها في زمن القياصرة، وإذا ما تحقّق له ذلك فإنّ المعادلات الدولية ستتغيّر كلياً وتضمحلّ أهمية الحلف الأطلسي كقوة ردعٍ عالمية لا تضاهيها قوة أخرى حتى الآن، إضافةً إلى حصول تخوف كبير لدى دول الاتحاد الأوربي من هذا الاندفاع العسكري لروسيا في قلب أوربا، الذي إذا ما تحقّق فإنه يتطلّب والحالة هذه إرضاء بوتين والتودّد إليه كما فعل الأوربيون مع هتلر أثناء احتلاله لتشيكوسلوفاكيا ، قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.

لكنّ حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، حيث كان في الطرف المقابل أمريكا التي أدركت مبكراً الأهداف الحقيقية للاستراتيجية الروسية وطموح بوتين اللامحدود، كما رأت بأنّ سيطرة بوتين على أوكرانيا تعني انتهاء الزعامة الأمريكية كقطبٍ رئيس ووحيد في رسم الاستراتيجيات الدولية، إضافةً إلى خسارتها لأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، وهذا ما لايمكن القبول به تحت أي ظرفٍ كان، لذلك تعامل مع الملف الأوكراني كما تعامل مع ملف صدام حسين واحتلاله للكويت، حين أوحت أمريكا لصدام بأنّ احتلال الكويت ليس بذي أهمية لهم، لكن بعد أن دخل صدام الكويت حشدت أمريكا جيوش عدد كبير من الدول تحت قيادتها لتحرير الكويت، وهذا ما يحصل اليوم مع بوتين تماماً، حيث عرضت أمريكا بدايةً على زيلنسكي اللجوء إلى أمريكا في الأيام الأولى كرسالة للروس بأنهم لن يتدخّلوا عسكرياً، لكن لم يمضِ أسبوع إلا وانقلبت السياسة الأمريكية رأساً على عقب، خاصةً بعد أن توسّع الروس بعشوائية في الجغرافية الأوكرانية الواسعة، حتى وصلوا إلى بُعد كيلومترات قليلة من العاصمة كييف، وهنا كانت الضربة القاصمة لظهر الجيش الروسي غير المهيّأ لمثل هذه المقاومة وهذه الأسلحة المتطورة، مما كبّده خسائر فادحة، وهذا ما يؤكّد بأنّ أمريكا كانت تعدّ العدة للردّ في الخفاء قبل التدخل الروسي، إضافةً إلى حشد كلّ الدول الأوربية ضد روسيا وفرضها عقوبات قاسية على الاقتصاد الروسي، خاصةً في مجال تصدير النفط والغاز وهما المصدران الأساسيان للاقتصاد الروسي الذي بفقدان روسيا لهذا الشريان الاقتصادي الحيوي يجعلها في حالة نزيف مستمر، تؤثّر سلباً على بوتين وسلطته في الشارع الروسي مع مرور الوقت، وعليه نستطيع القول بأنّ بوتين أمام خيار صعب، فلا يستطيع التراجع عن موقفه السياسي والعسكري الذي تعني الهزيمة المدوية لاستراتيجيته السياسية، وبالمقابل لم يعد يستطيع تحقيق أي نصرٍ عسكري في أوكرانيا، خاصةً بعد أن فتح الناتو كلّ مستودعات ترسانته العسكرية المتطورة أمام أوكرانيا، ومن هنا يأتي تهديد بوتين باستخدام السلاح النووي اذا ما اقتضت الضرورة، وهذا ما يدفع العالم كله الى حبس أنفاسه من تدمير البشرية في حال اذا ما تحوّلت الحرب إلى حرب نووية، فلن يخرج أحد منتصراً، بمن فيهم روسيا، رغم أنّ هذه الفرضية مستبعدة لكنها ليست مستحيلة، وقد يُستخدم على نطاق ضيق، لكن لا أحد يضمن بعدم توسعه، لذا يجري البحث عن حلولٍ لخروج بوتين بماء الوجه من خلال منحه بعض امتيازات تدخله العسكري، لكنّ الرفض الأوكراني قاطع حتى الآن، ولاتوجد في الأفق المنظور بوادر حلحلةٍ للأوضاع بين الطرفين، وقد تكون السنة الثانية من الحرب أكثر عنفاً ودموية، وفي النهاية سيكون البقاء للأقوى، ولاخيار أمام روسيا سوى التراجع، الذي سينعكس سلباً على وضع بوتين داخل روسيا وعلى مجمل الصراعات الدولية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص في سوريا.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “305”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى