آراء

العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية في الدولة الحديثة

بسام العيسمي

الديمقراطية تعني حيادية الدولة كحقلٍ سيادي , يحقّق الإجماع العام . والأسلوب الأرقى والأكثر انسانيةٍ للوصول الى مجتمعٍ توافقي، تحلُّ فيه المنافسة الفكرية والحوار الإيجابي بين أفراده وقواه المختلفة بديلاً عن العنف والإقصاء والتهميش والتغييب .

وتؤمّن وتنظّم التنافس الحر للفعل السياسي بين الأحزاب والقوى السياسية المختلفة , بوصفه أداة الصراع السلمي للوصول الى السلطة, وإدارة الدولة والمجتمع . عبر برامجها العمومية . السياسية , والإقتصادية, والإجتماعية , والفكرية والثقافية. وغير المؤسّسة على أسس عرقية, أو دينية , أو طائفية ؛ لأنها وفي هذه الحالة تتحوّل لقوى خاصة فاقدة لعموميتها . وغير قادرة للتعبير عن المصالح الكلية للمجتمع .

ومن هنا تكمن أهمية العلمانية كشرطٍ لازم للديمقراطية لتأمين حيادية الدولة . وبوصفها الأكثر تعبيراًعن مفهوم عمومية الدولة الوطنية الحديثة , بالإضافة لشرط المواطنة . واللذان يتحدّد بموجبهما المفهوم السياسي للأكثرية والأقلية في المجتمع ,وهي أقلية وأكثرية غير ثابتة . فقد تكون أقلية اليوم هي أكثرية الغد , والعكس هو صحيح . فالنظرإلى مفهوم الأقلية والأكثرية بغير المنظور السياسي , نكون أمام أغلبية وأقلية مشوّهة , لا تعبّر عن مصالح جميع المواطنين . وهذا ما يقودنا لحالة طغيان لفئة ضد أخرى ؛ لأنّ الأكثرية قادرة على الظلم أكثر من الأقلية .

وبذلك تصبح العلمانية هي الوعاء الأوسع الذي يتّسع لكلّ أشكال التعددية الدينية والطائفية والمذهبية والقومية في المجتمع . والأقدر على تنظيم العيش المشترك بين الأفراد بالتوافق مع هذا التنوع والإختلاف . بإطار المساواة القانونية في الحقوق والواجبات والمكانة بين الجميع سنداً لرابطة المواطنة .

فالمشاركة السياسية التي تستند إلى رابطة المواطنة فقط , هي التي تنصهر فيها كلّ التشكيلات المجتمعية لتشكّّل هوية الوطن , وتجسّد مدنية الدولة .

وهذا لا يعني التنكّر للحقوق الخاصة للأفراد والجماعات، بحسب انتماءاتهم المختلفة. بل يجب الحفاظ عليها وحمايتها , وعدم المساس بها أو التضييق عليها . واحترام التنوّع في المجتمع , والإقرار بحرية المعتقد .

إن ارتباط الديمقراطية بالعلمانية في نظام حكمٍ ما يعزّز حيادية الدولة الإيجابي اتجاه الأعراق والقوميات والثقافات والأديان , وكلّ الإختلافات الهوياتية بمختلف أشكالها العقائدية والسياسية ؛لتصبح دولة الكلّ المجتمعي التي تقف على مسافةٍ واحدة من الجميع ،وتكفل لأفرادها باختلاف مشاربهم جميع الحريات العامة المستمدّة من الشرعة الدولية لحقوق الإنسان , بما فيها حرية التعبير, والانتقاد ,والاعتقاد , وحق الاختلاف , وحرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية. وحمايتهم من العسف والظلم بسبب انتماءاتهم الدينية أو السياسية أو القومية .

فالدولة الإيديولوجية وبأيّ شكلٍ تبدّت . هي دولة غير عادلة ؛ لأنها تنظر للمواطنين من بوابة الولاء لمعتقداتها . فهي دولة متحيّّزة، ولاتستطيع أن تقف على مسافةٍ واحدة من كلّ مواطنيها .

وهذا ما يُعطي للعلمانية أهميتها بكونها ألية لبناء مؤسسات الدولة على أساس مدني وحيادي .، يكون المواطن فيها مواطناً ليس بحكم الطائفة التي ولد فيها . ولا القناعة الدينية التي يتبنّاها . وإنما بحكم مواطنيته المتساوية مع الآخرين.

فالدولة الحيادية لا تطلب من المتدينين التخلي عن معتقداتهم الدينية. بل على العكس من ذلك فهي تحمي حرية المعتقد وتفسح المجال لممارسة الشعائر الدينية لكلّ المتدينين على اختلاف انتماءاتهم .

والدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، بصفتها العمومية والحيادية , تكون بالضرورة ضامنة لحرية المعتقدات . وحامية لخيارات وقناعات أفرادها الحرة بكلّ أشكالها السياسية والروحية ,دينية كانت أو لادينية . مما يجعل منها دولة الكلّ المجتمعي . والمساحة التوافقية التي تتسع للجميع ,. فهي دولة للمؤمن والكافر على حد سواء سنداً لحقوق المواطنة المتساوية . فليس من وظيفتها هداية المجتمع , ولاتكوين معتقداته.

إذ أنّ ترابط العلمانية مع الديمقراطية في الدولة الحديثة يخلق أرضية للاندماج بين أفرادها الحاملين لجنسيتها على اختلاف تنوعاتهم الدينية والطائفية والقومية والسياسية .

فاختلاف العقيدة بين الأفراد لايحول دون انتسابهم لمواطنة مشتركة تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات والمكانة .

والعلمانية لا تعمل إلّا بمنظور العقل والاستيعاب الزمني للواقع . فهي المرجعية العقلية القابلة للتصويب والخطأ والتغيير وإعادة النظر والمقاربات الجديدة . في سياق مسارات الحركة الكونية للتطوّر والتبدّل السريع , الذي يحدث في العالم . بخلاف الشعور الديني، فهو غير قابل للمساس به بالسهولة ذاتها . فلا يمكن أن تدخل الحداثة وقيمها لمجتمع ما بمعزلٍ عن العلمانية .

إنّ العقل وحده هو من يدفع القوانين نحو المزيد من العدالة والحرية والمساواة . والتبدّل الحركي في صيرورة زمنية تطوّرية لخدمة مصالح الناس , وتلبية احتياجاتهم .

أمّا في مجتمع تقدّس فيه العقائد فليس من السهولة بمكان توجيه أي انتقاد لها , أو تغييرها .

فإدخال الدين في المجال السياسي أو العام ,لا يترك لغير المؤمنين مكاناً فيه. ولا حقوقاً متساوية مع الآخرين .

وحرية التعبير عن الرأي والانتقاد والاعتقاد يكون لها حساسية كبيرة عندهم . لأنها وبحسب ظنهم تنال من أركان عقيدة المقدّس لديهم .

وأعتقد بأنّ المرجعيات الدينية كافة الإسلامية , والمسيحية , واليهودية , تشترك فيما بينها بتصوّرٍ واحد , وهو تغييب المثل الديمقراطي والعلماني . والسعي لإطفائه باسم قانون إلهي أسمى من قانون البشر.

فترابط العلمانية مع الديمقراطية هو الضمانة الوحيدة من أجل بناء مجتمعٍ تُحترم فيه جميع القناعات الروحية والدنيوية كما هي كقناعات خاصة لاينبغي فرضها على الآخرين .

وفي ظلّ ترابطهما يسمو الدين ويُحترم ولايوظّف و يُستخدم رهينةً في يد السياسيين.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “308”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى