المجلس الوطني الكُردي وأهمية المراجعات النقدية
عبدالباسط سيدا
ما تواجهه الحركة الكُردية السياسية السورية بمختلف أحزابها وتياراتها من صعوباتٍ ومراوحةٍ في المكان، إن لم نقل تراجعات وانقسامات، إنما هو في واقع الأمر حصيلة جملةٍ من التراكمات التي سبقت الثورة السورية، وتفاعلت خلالها، حتى وصلت إلى ما هي عليه راهناً.
وإذا كانت هناك رغبة في مكانٍ ما، أو لدى جهةٍ ما، في معالجة هذه الوضعية غير السوية، غير المبشرة، التي تعاني منها الحركة المذكورة، فلا بدّ أن يسبق ذلك تشخيصٌ دقيق لأسباب ما حصل، وذلك من أجل البحث في امكانية تجاوزها، ووضع الحلول المطلوبة للخروج من الدوّامة العقيمة التي لم، ولن، تسفر عما هو مفيد، وبما يرتقي إلى مستوى التحديات، وذلك إذا ما استمرّت الأمور على حالها.
فقبل الثورة، كانت الأحزاب الكُردية تعاني من الانقسامات البينية والداخلية، الأمر الذي أدّى بالكثير من الكوادر المؤهّلة والكفاءات إلى ترك العمل الحزبي. كما أنّ الأحزاب المعنية، التي كانت قد اعتادت العمل السري، كانت تعيش عوالمها الخاصة، ولم تتمكّن من مدّ الجسور مع الأوساط الشعبية؛ بل كانت في معظم الأحيان تقف في وجه منظمات المجتمع المدني، على ضعفها، التي كانت تتشكّل من حينٍ إلى آخر؛ وتعمل على التدخل في شؤونها الأمر الذي كان يؤدّي إلى تفتيت الجهود وتبديد المردود.
ومن الواضح أنّ تلك الأحزاب كانت تخشى من أية جهودٍ جادة تستهدف صيغةٍ ما من التنظيم خارج صفوفها. بل أنّ الطريف في الأمر أنّ تلك الأحزاب كانت تعتبر نفسها مصدر الشرعية، وتثير الشكوك حول أي نشاطٍ لا يخضع لهيمنتها.
وقد بُذلت محاولات، سواءً في الداخل أم في الخارج، خاصةً بعد انتفاضة قامشلو 12 آذار/ مارس 2004، من أجل توحيد الموقف الكُردي السوري، بغية التعريف بالقضية الكُردية السورية بوصفها قضيةً وطنية سورية؛ وكذلك لبيان مدى أهمية هذه القضية على الصعيد الكُردستاني، وعلى المستويين الإقليمي والدولي.
ولكنّ الحسابات الحزبية الضيقة كانت تحول باستمرار دون تطوير تلك الجهود، بل على النقيض من ذلك، فقد كانت تعرقلها؛ وتدفع بالكثير من النشطاء إلى ترك الساحة، والانشغال بالمشاريع الخاصة.
لهذه الأسباب وغيرها، كانت الحركة السياسية المعنية هنا غيرمستعدة كما ينبغي للثورة السورية، ولم تتمكّن من تحديد الموقف المطلوب في الوقت المناسب. وأمام واقع عدم وجود إطار جامع، لم يتمّ التوافق على المطلوب كُردياً في سوريا، وإنما كانت هناك اجتهادات وتباينات بين مختلف الأحزاب.
ومع تحرك الأوساط الشبابية من المستقلين، وحتى من جانب أعضاء الكثير من الأحزاب ممن لم يلتزموا بقرارات وتعليمات قياداتهم، ومع تشكيل التنسيقيات الشبابية الكُردية في معظم مدن وبلدات المناطق الكُردية، شعرت تلك الأحزاب أنّ البساط يُسحب من تحت أقدامها، لذلك سارعت إلى لملمة صفوفها، وتجاوز خلافاتها، ورفعت سقف المطالب من دون العمل على توفير الآليات والمقدمات الواقعية لبلوغها. كما أجرت مجموعة من الأحزاب الكُردية السورية الاتصالات مع حزب الاتحاد الديمقراطي، واجهة حزب العمال الكُردستاني، الذي كان قد دخل إلى الساحة الكُردية السورية بموافقة ورعاية ودعم النظام؛ وقد تمّ ذلك على الرغم من الخلافات العميقة بين الجانبين على صعيد التوجه والمطالب والمرجعية.
وقد أدّى هذا الأمر إلى وضع حدٍٍّ لنشاط التنسيقيات الشبابية الكُردية المستقلة؛ هذا في الوقت الذي كان من المفروض فيه أن يسعى المجلس الوطني الكُردي نفسه الذي تشكّل مع بدايات الثورة السورية 2011 إلى الاستثمار في تلك التنسيقيات، وتفعيل العلاقة مع نشاطاتها، والعمل المشترك معها، وهو الأمر الذي كان سيصبّ في مصلحة الثورة وفي مصلحة الكُرد السوريين في الوقت ذاته.
ومع تمكّن حزب الاتحاد الديمقراطي من ترسيخ أقدامه بعد أن حصل على المشروعية السياسية بموجب الاتفاقيات التي تمّت بينه وبين المجلس الوطني الكُردي، تمكّن من إقصاء أحزاب المجلس نفسها، كما تمكّن من الإيقاع بين تلك الأحزاب، بل استطاع أن يسحب العديد منها إلى جانبه.
كما أنّ عدم النجاح في توحيد الجهود بين المجلس الوطني الكُردي والمجلس الوطني السوري في بدايات الثورة قد تسبّب في الكثير من الخسارة، سواءً بالنسبة إلى المجلس الوطني الكُردي، أم بالنسبة إلى الكُرد السوريين وكذلك بالنسبة إلى السوريين عموماً. فقد كانت الفرصة مواتية لبلوغ اجماعٍ وطني سوري على مشروعية وعدالة القضية الكُردية السورية، خاصةً بعد أن أصدر المجلس الوطني السوري وثيقته حول القضية المعنية في نيسان 2012.
وما ترتّب على ذلك، تمثّل في توتير أجواء العلاقات العربية الكُردية بفعل ممارسات ومواقف حزب الاتحاد الديمقراطي الذي كان يسعى بكلّ الوسائل من أجل مصادرة الورقة الكُردية السورية، وذلك لصالح مشروع حزب العمال الكُردستاني.
وبعد التوافق بين المجلس الوطني الكُردي والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في صيف 2013، ودخول المجلس إلى الائتلاف بموجب الوثيقة التي توافقا حولها؛ لم تبذل الجهود المطلوبة للتعريف بتلك الوثيقة وتسويقها سواءً على المستوى الوطني السوري أم على المستويين الإقليمي والدولي، هذا على الرغم من النصائح الكثيرة التي قُدّمت لقيادة المجلس في هذا المجال.
ومع إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي عن مشروع إدارته الذاتية، واعتماد الجانب الأمريكي عليه بعد ذلك في حملة محاربة داعش لأسبابٍ عدة باتت معروفة، يطول الحديث حول تفصيلاتها هنا، وجد المجلس الوطني الكُردي نفسه خارج نطاق التأثير ضمن الأوساط الكُردية السورية، بل أنّ الكثير من قياداته وقواعده وجمهوره هاجروا سواءً إلى إقليم كُردستان العراق أم إلى تركيا وأوروبا. وقد تفاقمت الهجرة الكُردية مع قيام حزب الاتحاد الديمقراطي بتطبيق التجنيد الإجباري، وفرض منهجه الدراسي الأيديولوجي غير المعترف به رسمياً من قبل أية جهة؛ وكل ذلك لم يُواجه باستراتيجية متكاملة من جانب المجلس الكُردي، الأمر الذي أدّى إلى غياب دوره، وضعف فاعليته.
ومع سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي على المزيد من الموارد المالية الخاصة بالمعابر والتجارة والضرائب والموراد الطبيعية ،لا سيما النفط والزراعة وغيرها من المصادر، تمكّن من توظيف الناس مقابل رواتب مرتفعة نسبياً مقارنةً مع الرواتب الحكومية. ونتيجة ذلك فقدَ المجلس الكثير من رصيده الشعبي، إلا أنّ ما أضعفه أكثز تجسّد في عقلية الاتكال، وعدم طرح مبادرات جادة واقعية، وعجزه عن تحمّل المسؤولية. هذا إلى جانب إخفاقه في تفعيل نشاطه في مختلف الميادين.
فالمجلس كان عليه أن يفعّل جهوده وتحركاته الجماهيرية في مختلف المناطق الكُردية السورية؛ كما كان عليه أن ينشط ضمن الجاليات الكُردية السورية خاصةً في أوروبا، ويقوم بحملاتٍ دبلوماسية واعلامية منظمة وعبر كوادر مؤهلة ممن يمتلكون الخبرة والمصداقية؛ إلا أنه آثر سياسة الانتظار، الأمر الذي أصابه بما يشبه الشلل. ومن الواضح أنّ واقع الترهل الذي تعيشه قياداته له تأثير سلبي كبير في هذا المجال.
فالمستجدات المتلاحقة تتطلّب وجود قيادات شابة قادرة على التحرك الفاعل في سائر المجالات، وعلى مختلف المستويات .
المجلس يحتاج إلى مراجعات جريئة مسؤولة لمواقفه وتوجهاته، والاعتراف بأخطائه، والعمل على مدّ الجسور مع الأحزاب التي غادرته، والتمسّك بحزمٍ بشرط ضرورة فكّ الارتباط بين “حزب الاتحاد الديمقراطي” و”حزب العمال الكُردستاني” قبل أي اتفاقٍ على توحيد الموقف الكُردي السوري السياسي، الذي لا يمكن، ولا ينبغي، أن يكون بعيداً عن التفاعل مع الموقف الوطني السوري العام. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ مشاركة المجلس في جبهة السلام والحرية تعدّ خطوة صحيحة في الطريق الصحيح، ولكنها خطوة تحتاج إلى التطوير والتوسيع، وتعزيز العلاقات مع الأطراف السورية المختلفة التي تعمل من أجل تغييرٍ سياسي يطمئن سائر المكونات السورية، وعلى قاعدة الاعتراف بخصوصياتها وضمان حقوقها في إطار وحدة الشعب والوطن.
المقالة تم نشرها في جريدة يكيتي بعدد 290