ملاحظات حول ندوة “مشروع وطن”، بعنوان “الأكراد عبر التاريخ”
د. رضوان باديني
ذكرت في رسالتي الصوتية الأولى الموجهة لأعضاء الندوة، “المآخذ العلمية” التي تشكلت لدي من جراء سماعي للبحث الذي قدّمه الأخ ماهر حميد مشكوراً. وللفائدة والاستفادة أعيد ذكرها هنا ثانيةً، ولكن هذه المرة كتابياً مع شرحٍ إضافي.
قبل كل شيء أريد التنويه إلى ما قرأته وسمعته في الندوة من تفسيرات وتأويلات كثيرة بين المتحاورين، هي في أغلبها خروج عن الموضوع وفتح لمواضيع فرعية لا تمتّ بصلة حقيقية للعنوان الرئيسي. حيث كان يدور الحديث حتى الساعة 2:00 من صباح 4-07-2021، أغلبه يشكّك بوجود الكُرد التاريخي في المنطقة، لربط ذلك بأحقية، أو بالأحرى، عدم أحقية حقوقهم القومية..الخ. بصراحةٍ، مثل هذا النقاش المهين ( ولا أقول المحاضرة نفسها) لا يخدم أي مشروع وطني وهو مرفوض جملةً وتفصيلا.ً
إنّ مفاهيم الحق والحرية والكرامة لا تتجزأ ولا تقبل النقاش وأنا شخصياً أعتذرت بالردّ على مثيريها ،لأنها ليست موضوع المحاضرة. ثم أن حق الكُرد الكامل وغير المنقوص بتقرير المصير، أسوةً بكل شعوب الأرض، وبالشكل الذي يرتأيه ديموقراطياً أغلبية الكُرد أنفسهم، مسألة تقرّها كل الشرائع الوضعية والسماوية وكلّ العهود والمواثيق الدولية، ويحتاج لعشرات الندوات والمناقشات الموضوعية حولها، وليس مناقشةً سطحية عاجلة وافتراضية على هامش موضوعٍ آخر، كالحالة التي نحن بصددها الآن. اعود مرةً أخرى للملاحظات العلمية التي سجّلتها على المحاضرة، وهي كفيلة بتوضيح الصورة وأصول وفروع الموضوع:
أولاً العنوان: “الأكراد عبر التاريخ”!! يمكن لهذا العنوان أن يكون عنواناً لسلسلةٍ طويلة من حلقات متواصلة عن تاريخ الكُرد في مختلف العهود والمراحل والحقب التاريخية.. لكنّ مثل هذا العنوان الواسع، سيسيئ للموضوع نفسه إذا جُزأ وأُختُزل في عناوين فرعية وثانوية لإجراء إستنتاجات، كأن نكتفي، تحت هذا العنوان، بالاسترسال على آراء معينة بذاتها، “منتقاة” من الكتب والمصادر المتنوعة، أو سحب مؤدى جملة أو فقرة قصيرة من إحدى المصادر، وتعميمه، ليتحوّل النص برمته لكاريكاتيرٍ سلبي مقصود به الإساءة الواضحة. ثم حين تقتصر المباحث الأخرى الدارجة تحت هذا العنوان على رقع وبقع هامشية من هذا التاريخ، وبالأخص إذا أخذنا بعين الاعتبار التشنج السائد في بيئتنا السورية في هذا الموضوع سنكون إزاء اصطناع فاجعة باسم العلم وليس بحث علمي لحل مشكلة. ولفهم ما نحن بصدده نقول، لو أصغنا عنواناً مشابه: “العرب عبر التاريخ” واقتصرنا في بحثنا بالاستشهاد عما قاله وكتبه شعراً ونثراً وأنشودة وغناءً.. بعض الفرس وبعض اليهود وبعض الألمان وبعض الفرنسيين والإنكليز عن العرب عبر التاريخ.. سنكون إزاء أية لوحة عن العرب؟؟!! وأخيراً: هل تخلو حضارة وتاريخ ثقافةٍ ما من توصيفاتٍ منتقصة؟؟!!
لن أطيل في تفسير هذه الجزئية، لأني أعتقد جازماً، بأنّ الأخ ماهر لم يتقصّد تمرير”إساءة” في نصه، كما أنه في بعض حالات شكوكه، سواءً أكانت “مبطنة “وضمنية أو ضبابية، لا يبغي سحبها على المؤدّى العام، كما فعل بعض المفسّرين في الندوة، لإجراء استنتاجاتٍ على هواهم ومزاجهم! لقد ذكرت لأخي ماهر بكلّ صراحةٍ، أثناء المداخلة الشفاهية، أنّ هذا العنوان غير موفّق، وقد أتفق معي، لكنه لم يأتِِ على ذكر الأسباب التي أدّت به شخصياً لاختيار هذا العنوان. مرةً أخرى، إنه عنوان عريض وغير علمي ولا يصلح لمقالٍ أكاديمي جملةً وتفصيلاً، وفيه الكثير والكثير من المآلات الغير مضمون تفسيرها علمياً وموضوعياً وستؤدّي حكماً لإنتاج الإبهام، وبالأخص في (قاعة- أوديسون) يحضرها أكثر من 300 فرد من كل حدب وصوب وبخلفيات مختلفة ومن غير الإختصاصيين بالتاريخ.
ثانياً المقدمة: لم نحصل في المقدمة على تسويغ علمي لتداول الموضوع بهذه الصياغة!! وما ذكره المحاضر في بداية حديثه، كتبرير عاطفي ووجداني، بأنّ الأكراد والعرب يتبادلون التهم الباطلة..الخ، وختمها بقوله:” ما هكذا تُبنى الأوطان”! كان ممهداً لإطلالة إيجابية وإزالة الضبابية جزئياً من رؤيته في النظر”للعلاقات العربية الكُردية”. لكن عدم اتّباع ذلك بشرحٍٍ موضوعي وعلمي مقنع، و انقلاب الموضوع، فيما بعد، بين أعضاء الندوة لسبب أو آخر، إلى جزئية ثانوية، أدّى إلى “خلط الحابل بالنابل” وأزال المسحة الإيجابية على إيماءات المحاضر؛ وبذلك أصبحنا إزاء نقاشٍ عبثي واعتباطي، نقاش من أجل النقاش، وأصبح باب السخرية والاستهزاء مفتوحاً على مصراعيه!
قرأت لأحد الحضور مثلاً، حينما قال تعقيباً على مُداخل آخر، الذي ذكر “أن الأكراد ينتمون للعرق الآري”، حيث أعقب بقوله متهكماً: “لماذا إذاً لا تطالبون بقسمٍ من مقاطعة بافاريا الألمانية”؟!
ثالثاً مشكلة البحث: يعتبر مشكلة البحث ركناً أساسياً من أركان البحث العلمي. ونحن لم نعرف من حديث المحاضر عن سبب عدم ذكره لـ”مشكلة بحثه”. فلم نعرف مثلاً: عما يبحث عنه لإثباته أو نفيه؟ وما هي الإشكالية المطلوب حلّها في بحثه؟! وما هي وسائله وأدواته للوصول لهذه الإشكالية؟
هذا الإبهام ادى إلى خلق حالةٍ عارمة من “اللاأدريه المطلقة” أثناء النقاش، وسنحت لمن تسوّل له نفسه، “الصيد بالماء العكر”، وعلى سبيل المثال، سأل أحدهم (ما هي أسماء بعض الدول والإمارات الكُردية قبل وبعد الإسلام..) وباعتبار هذا الموضوع “مدروج” بكثرة في الأدبيات الكُردية الراهنة، نقلت له بشكلٍٍ سريع ومباشر مقالاً بهذا العنوان، ومن أول بحث في (غوغول)، بدون الاكتراث بإسم المؤلف ومدى عمق دراسته ومصادره… وتفاجأت بعدها بشخصٍ آخر يقول، رداً عليَّ، ما معناه:
-لا يمكن لك ان تكون صيني وهندي وروسي وألماني… في آن واحد!!؟؟ كتعبير على امتعاضه وعدم موافقته على أن تكون الإمارة المروانية التي سادت حقبةً طويلة من الزمن في دياربكر ومناطق متاخمة من العراق وسوريا الراهنة… بأنها إمارة كُردية!! وأضاف آخر، لم يكن مصطلح كُردستان دارجاً بعد في الأدبيات التاريخية.. أو معترفاً به في ذلك الوقت، فالأصح حسب رأيه، القول، إنّ الدولة المروانية في دياربكر كانت إسلامية -عباسية!!؟؟
هذا في الوقت الذي ينسب بعض المؤرّخين العرب، حضاراتٍ سادت ثم بادت قبل الإسلام، في الحيز الجغرافي التي تشغرها دولة سوريا اليوم، للحضارة العربية أو السورية أو “سوريا العربية” جملة واحدة ؟؟!! وهم يعتبرون، بهذا المفهوم الإشكالي، الحضارات الآشورية والآرامية والفينيقية.. امتداداً لحضارتهم وجزءاً من تاريخهم!؟
وبذلك ينفون وجود لغتهم الحية، وحضورهم العددي المهم، وحقيقة عدم انصهارهم في البوتقة “العربية” السورية. هؤلاء يستخدمون اسم سوريا القديم، ذا الأصل السرياني-الآشوري…للدلالة على عمق وعراقة وجودهم، بينما لا يَمتْ هذا الاسم في الحقيقة، بأيّ علاقةٍ للمضمون الاجتماعي- الثقافي لسوريا الراهنة. إنهم بذلك يعتبرون الاسم “ماركة مسجلة عابرة للتاريخ” غير قابلة للتغيير؟؟!! بينما الدولة المروانية في مدينة دياربكر، التي تطابقت خصائلها مع الهوية الكُردية شكلاً ومضموناً، وما يزال العنصر الكُردي هو السائد فيها ليومنا هذا، فيعتبرونها ظاهرة زائلة غير أصيلة. انظر تاريخ الفارقي: (الدولة المروانية- لمؤلفه أحمد بن يوسف الفارقي، القاهرة 1959).
ثالثاً حدود الدراسة وتعتبر أيضاً شرطاً رئيسياً محدّداً للسمة العلمية للبحث. هذه الحدود كانت غائبة أيضاً بشكلٍ كارثي في المحاضرة.
فمثلاً، لم نعرف عن أي حدود موضوعية يتكلّم المحاضر، وما هو الإطار الزمني والمكاني لبحثه!؟
فلو أنّ المحاضر مثلاً، حصر حدود دراسته الموضوعية بما كتبه العرب أو الفرس أو…الخ عن فيئة كُردية أو منطقة ما لاتضح الموضوع وفهمنا أسباب استخدامه لأدواته ووسائله ومصادره. لكنّ هذا الخلط الكبير، غير المبرر وغير المفهوم لكلّ هذه الديباجات والأدوات المتنافرة، أنتجت صورةً هيلامية وهمية للأكراد لم تتفيّد اية غاية علمية ولم توضّح أي هدف.
رابعاً هدف الدراسة: أكاديمياً، لا يوجد بحث بدون هدف واضح وصريح. وتحديد الهدف يكسب البحث العلمي خصوصيته وتميزه عن المقال الإعلامي الدعائي والسياسي، أو مقال رأي..الخ. وجرت العادة بين الأكاديميين بإعتبار تحديد هدف البحث وغايته، ووجوده في مستهل البحث، ضرورة قصوى وشرط من شروط الدراسة الأكاديمية. كأن يتمّ التركيز على أهمية البحث بالنسبة لحقلٍ علمي معين أو الحاجة لتبيان المشكلة المتعلقة بالموضوع بالنسبة للدولة أوالمجتمع.. وانتفاء هذه الخاصية في البحث، ساعد في تكوين كمٍ هائل من الآراء المتناقضة والمتضاربة لدى الحضور، لا بل متنافرة وغير متضافرة لصالح الدراسة. طبعا أنا شخصياً أستثني كون الباحث استهدف إنشاء هذا اللغط في ذهن الحضورعن قصد، أو غرس عمداً بذور الشك في الجذور التاريخية للكُرد وحضورهم المتأخر في المنطقة، وبالأخص حين عرج على زمن تواجد الكُرد في المدن نصيبين والقامشلي.. بإنتقائه عبارة وردت في مصدر كنسي غير!!
هنا حريٌ بنا التذكير بأنّ الموضوع الأخير، غير ذي جدوى وقد جرّبه الكثيرون من المعادين للكُرد وعلى مدى عقودٍ طويلة ولم يتوفّقوا فيه. وبالمقابل تناولته العشرات من المصادر الموثوقة والمؤسسات العلمية والأكاديمية حول العالم، والتي أثبتت أغلبها، حضور الكُرد التاريخي الموثوق في المنطقة التي يشكّلون أغلبية سكانها اليوم، مع ذكر عشائرهم وأروماتهم وإماراتهم وخاناتهم ومناقبهم.. وهذا الحضور التاريخي المستمر في الجغرافيا ذاتها (بقليل من التقلص أو التمدد) حسب البروفيسور المرحوم ميخائيل لازاريف، كبير المستشرقين الروس – (مشرف أطروحتي للدكتوراه عام 1986 ) مثبت بشكلٍ لا يقبل الشك منذ أكثر من ألفي عام قبل الميلاد على أقل تقدير (لقد كرّر هذا الرأي في أكثر من موضعٍ في كتبه: (القضية الكُردية بين أعوام 1891و1917، دار نشر “ناووكا” 1972؛ ثم، الإمبريالية والمسألة الكُردية، دار نشر “ناووكا” 1989 وغيرهما باللغة الروسية، والكتابان مترجمان للعربية).
خامساً منهجية البحث: الحقيقة أنّ ما شاهدناه وسمعناه في الندوة، في هذا الخصوص، هو خلطٌ بين عددٍ لا يُحصى من وسائل سطحية ساذجة، وقراءة لا ترقى لمنهجية معتد بها.. قد حيَّدت وأبعدت الباحث عن الواقع ودفعته نحو “اللامنهجية” في السرد، وأدّت إلى تراكم المعلومات الغير هادفة لخدمة غايةٍ علمية معينة. كل ما عرفناه من إيجابيات عن البحث هو جولة الباحث على مصادر متنوعة ومختلفة الغايات والعمق والدقة.. لرسم “صورة غير منسقة” للكُرد. ومن المؤكد أنّ المحاضر لم يعتمد لا على المنهج الوصفي في حصر الصفات الكمية والنوعية للظاهرة المبحوث عنها ولا التجريبي، ولا الميداني… إلخ، وعادة ينبغي على الباحث تحديد سبب لجوءه لاختيار منهجيةٍ معينة ويبررها علمياً وموضوعياً، وهو ما لم نجده؟!
سادساً النتائج والتوصيات والمقترحات: عادة نستخلص من نتائج البحث أهم المقترحات والتوصيات التي يعلنها الباحث لتتويج دراسته وتعميم الفائدة منها. وهذا ما لم نسمعه بوضوح من الباحث في محاضرته.
ورغم كلّ هذه الملاحظات وكثرتها، لا ينبغي إغفال الجهد الكبير الذي بذله المحاضر، في البحث والتنقيب عن العديد من المصادر القديمة والحديثة، وهو جهد يُشكر عليه، بصرف النظر عن الأهداف المتحققة أو غير المتحققة منه. وبرأينا المتواضع، لو أشرفت على الدراسة جهة علمية ضالعة، ووجّهت الباحث توجيهاً علمياً وأرشدته لما ينبغي اتخاذه من إجراءات بحثية، لكانت النتيجة أكثر نضوجاً ويناعة وفائدة.
إنّ ملاحظاتنا وإشاراتنا الجزئية لمكامن الضعف والخلل، كما أسلفنا، لا تلغي الجهود الخيّرة والشجاعة الأدبية التي تحلّى بها الباحث لاختيار قضيةٍ تخصّ الملايين من البشر يدير لها أغلبية الباحثين في بلدنا ظهورهم لها، أو يكتفي بعضهم بتناقل الشائعات والآراء السطحية والشعبوية المتكونة عن الموضوع في زمن الأزمات. ومن هذه الزاوية حصراً، يستحقّ المؤلف كلّ الشكر والتقدير على جهوده وعمله المضني. ونحن نثّمن جهوده عالياً ونتمنى له التوفيق والنجاح على هذا الطريق.