آراء

لن ينقذ سوريا سوى التوافق الداخلي

عبدالباسط سيدا

ما زال الموضوع السوري ينتظر تبلور معالم إستراتيجية أمريكية واضحة محدّدة الأهداف بشأن سوريا، وتمتلك خارطة طريق يمكن ترجمتها على أرض الواقع.

وقد جاءت أخبار غياب هذا الموضوع عن مباحثات القمة الأمريكية – الروسية التي انعقدت قبل أيامٍ في جنيف (16 حزيران/يونيو 2021 ) بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين لتؤكّد أنّ هذا الموضوع غير مدرج حالياً على قائمة الأولويات الأمريكية؛ وإنما هو ملف من الملفات الإقليمية والدولية التي قد تُحل في سياق تسوية عامة، أو قد يبقى مجرد ورقة من أوراق الضغط وقت اللزوم؛ أو قد يُترك هذا الموضوع لمصيره على مدى عقود قائمة، ليتكيّف الناس شيئاً فشيئاً مع وضعية مناطق التحكم والنفوذ الحالية، وهو الأمر الذي يحافظ على الأبواب مفتوحة أمام جميع الاحتمالات؛ ومنها احتمالات الضم والإلحاق، وحتى التقسيم غير المعلن، وربما المعلن.

الروس من جانبهم هم في عجلة من أمرهم. روّجوا كثيراً لموضوع عودة اللاجئين، ولإعادة الأعمار. وقبل ذلك كانوا قد تقدّموا بـ “دستور” ناجز لسوريا إلى من كان قد تمّ اختيارهم من جانب الدول ليكونوا ممثلين عن “المعارضة” في آستانا.

كما عمل الروس على تهيئة الأجواء والمقدمات للتمديد لبشار الأسد في لعبة إعادة تدوير مكشوفة الأهداف، بائسة الإخراج؛ حتى باتت أشبه بعرض هزيل من عروض مسرح الدمى/العرائس.

ويبدو أنهم (الروس) كانوا على الأغلب، وما زالوا، يراهنون على إعادة النظام إلى الجامعة العربية، ليكون ممثلاً لسوريا التي أكثر من نصف شعبها موزّع بين لاجئ ونازح نتيجة حربه على السوريين، وتحتلها جيوش وميليشيات متعددة الجنسيات؛ وتتشكّل فيها اليوم جيوش وميليشيات محلية بإرادات خارجية؛ وبناءً على أولوياتٍ لا تتقاطع مع المشروع الوطني السوري الذي من شأنه أن يوحّد السوريين شرط، أن يتمكّن من طمأنتهم، ويحترم خصوصياتهم الدينية والمذهبية والقومية، ويضمن حقوقهم ضمن إطار وحدة البلاد، وفي ظلّ نظامٍ سياسي ديمقراطي تعددي مدني، تكون فيه الدولة محايدة دينياً وقومياً وايديولوجياً، وعلى مسافةٍ واحدة من جميع أبنائها.

وما يعزّز هذا التوجه هو أنّ جملة من الدول العربية قد أفصحت علانيةً، أو اتخذت خطواتٌ عملية في هذا الاتجاه؛ ولكن الموقف الغربي العام، والأمريكي تحديداً قد دفع ببعض هذه الدول إلى التريث، وانتظار تبلور ملامح مقاربة إدارة بادين للملف السوري.

وما يُستشف من المباحثات التي كانت بين الرئيسين الأمريكي جو بايدن والتركي رجب طيب اردوغان في بروكسل 14 حزيران/ يونيوا 2021، هو أنّ صيغة ما من صيغ التفاهم قد تمّت بينهما؛ وهي تستند على الأغلب إلى تفاهمات سابقة، مكّنت تركيا من الدخول إلى المناطق الشمالية الغربية من سوريا، سواءً في جرابلس وأعزاز والباب وادلب ، ومن ثم عفرين، وفيما بعد تل أبيض وسري كانيي/ راس العين. وربما كان الابقاء على “هيئة تحرير الشام”/ جبهة النصرة، من بين تلك التفاهمات مقابل القبول بأسلوب تعامل الولايات المتحدة مع الأوضاع في منطقة شرقي الفرات، هذا على الرغم من التصريحات الإعلامية التي غالباً ما تكون بهدف الاستهلاك المحلي الداخلي.

وما سمعناه، ونسمعه، من أحاديث حول دور مرتقب لتركيا في أفغانستان، ودورها في أذربيجان، وحتى في ليبيا، يشير إلى رغبة أمريكية في اعتماد نوع من توزيع العمل بين الحلفاء والشركاء الإقليميين، لتتمكّن الإدارة (الأمريكية) من التحرر من ضغوطات الرأي العام الداخلي، وتركّز على القضايا الأمريكية الداخلية. وتستطيع من جهة أخرى مواجهة التحديات المرتقبة، سواءً مع الصين أم مع الروس، على صعيد التجارة والتكنولوجيا، وسباق التسلح، والهجمات السبرانية؛ وكلّ ذلك يندرج في إطار التحسب من احتمالات التمدد الصيني، وحتى الروسي في مناطق اعتبرتها الولايات المتحدة باستمرار جزءاً حيوياً من فضائها الجيو سياسي، ويُشار هنا إلى مناطق الشرق الأقصى، والشرق الأوسط، والهند، وأمريكا اللاتينية.

وتأتي المفاوضات حول الملف النووي الإيراني في فيينا ضمن سياق هذا التوجه الأمريكي الذي يقوم على تهيئة المقدمات والشروط لمواجهة التحديات الأكبر. وعلى الأغلب لن تقتصر هذه المفاوضات إذا ما تحوّلت مستقبلاً إلى مفاوضات مباشرة، على الملف النووي وحده، بل ستشمل الدور الإيراني المستقبلي في المنطقة، لا سيما بعد الاتفاقيات الاقتصادية البعيدة المدى التي تمّت، أو أُعلِن عنها، بين إيران والصين. هذا بالإضافة إلى الدور الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن. وكلّ ذلك لا يقلق الأمريكيين وحدهم، بل الغربيين على وجه العموم، والإسرائيليين أيضاً في الجوانب الخاصة بهم.

أما سورياً، فمن الواضح أنّ الأمريكان سيستمرّون في سياسة الاحتفاظ بورقة شرقي الفرات لما تحقّقه لهم من أهداف متعددة في الوقت ذاته. فهي أولاً تمنع تفرّد الروس بالموضوع السوري، وتمارس ضغطاً مستمراً عليهم. فهي منطقة النفط والحبوب والثروة المائية. كما أنها منطقة واسعة تضمّ ثلاث محافظات هامة تظلّ سيادة أيّ نظامٍ من دونها ناقصة كسيحة، إلا إذا كان هذا النظام قد وافق ضمنياً على صيغةٍ من الصيغ التقسيم غير الرسمي، أو الرسمي، مقابل البقاء.

أما الدور الآخر الذي يمكن أن تؤدّيه ورقة منطقة شرقي الفرات للولايات المتحدة، فهو يتمثّل في ضبط العلاقات مع الحليفة الصعبة: تركيا، وذلك من أجل الوصول إلى توافقات براجماتية لا تتقاطع في الكثير من الأحيان مع ما يسوّق عبر الإعلام.

هذا في حين أنّ الدور الأهم للورقة المعنية هو الخاص بالموضوع العراقي، ومنع إيران والميليشيات المتحالفة معها من استخدام تلك المنطقة كساحة خليفة للتوسع في مناطق الأنبار والموصل، وحتى التأثير في الواقع السوري. كما أنّ المنطقة المعنية تتيح لأمريكا، إذا دعت الحاجة، أن تتحرّك للتأثير الميداني سواءً في سوريا أم، وعلى الأغلب، في العراق، ومن دون الحاجة إلى الحصول على إذن أحد، وذلك حتى لا تتكررّ تجربتها مع تركيا عام 2003 التي رفض برلمانها دخول قوات أمريكية عبر أراضيها للمشاركة في عملية إسقاط نظام صدام حسين.

وما يبذله المسؤولون الأمريكان منذ نحو عام، أو ربما أكثر، لتحقيق المصالحة بين حزب العمال الكُردستاني والمجلس الوطني الكُردي على الرغم من إدراكهم بصعوبتها، وما يجرونه من اتصالات مع العشائر في منطقة دير الزور، والقوى العربية والسريانية في منطقة الجزيرة؛ إنما يأتي في سياق محاولة ترتيب الأمور انتظاراً لما ستسفر عنه التسويات الدولية والإقليمية المستقبلية.

ولكن هذه الجهود لم تسفر حتى الآن عن نتائج ملموسة يمكن البناء عليها، وذلك بفعل تحكم حزب العمال الكُردستاني في الإدارة الذاتية المعلنة من جانبه عبر واجهته السورية: حزب الاتحاد الديمقراطي، إلى جانب هيمنته على المفاصل الأساسية في قسد.

في المقابل أثار الإعلان عن تأسيس جبهة السلام والحرية بين أطراف عربية وكُردية وسريانية، الإرتياح لدى قطاعات واسعة من أبناء منطقة الجزيرة، لأنّ الأطراف المشاركة فيها هي أطراف سورية معروفة بانتماءاتها وتوجهاتها، ويمكن أن تكون هذه الجبهة في حال نجاحها في مشروعها، بعد تجاوز عوامل الضعف، أن تكون نموذجاً لوحدة وطنية سورية منشودة بين السوريين جميعاً في الإطار الأكبر، وذلك على قاعدة مشروع وطني يكون بالجميع وللجميع.

المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 287

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى