أفغانستان – القابلية للاستعمار
د. محمد حبش
تكمن عبقرية مالك بن نبي في طرحه لمصطلح القابلية للاستعمار، وذلك في كتابه شروط النهضة، حيث بسط القول في ظاهرة القابلية للاستعمار، وهي أنّ الشعوب البائسة توفّر بنفسها لمستعمريها أسباب احتلالها واستغلالها واستعمارها، وتستدعي الاستعمار عن قصدٍ أو غير قصد !!
وربّما كانت الكلمة الأدق في الواقع الأفغاني والسوري والعراقي والليبي هي الجاذبية للاستعمار!!!
وفي قراءةٍ سريعة لسجل المأساة الأفغانية يمكننا أن نلاحظ المراحل التالية:
1973-1980 دخلت أفغانستان منذ انهيار حكم ظاهر شاه قبل خمسين عاماً في الحروب الأهلية، وبعد خمس سنواتٍ من الحرب الأهلية صارت أفغانستان بيئة جاذبة للاستعمار، تستدعيه راغباً أو راغماً للقدوم بكلّ ما معه من قسوةٍ وجنون.
1980-1990م اجتياح روسي ماحق في 1979م بأقوى آلةٍ عسكرية في الأرض، يحتلّ أفغانستان، ولكنه يخرج بعد عشر سنواتٍ دامية ، حيث ينتصر عليه المجاهدون بمعونةٍ أمريكية….. ويتمّ شنق الرئيس المعيّن من الروس نجيب الله على عمود الكهرباء….
1990-2001م المجاهدون الذين انتصروا في الجهاد الأصغر على عدوهم، انهزموا في الجهاد الأكبر على أنفسهم ، وعادوا للقتال والتشرذم والصراع، وباتت بلادهم مأوى المتشدّدين الجهاديين في العالم، حيث تأسّست القاعدة وأعلنت الجهاد وقاموا بغزوة مانهاتن وقتلوا ثلاثة آلاف أمريكي!!!
2001-2021م أمريكا تجتاح أفغانستان 2001م وتقيم حكماً عسكرياً مباشراً وتعيّن عدة حكومات تحت القوة العسكرية الأمريكية عشرين عاماً، دون أن تتمكّن هذه الحكومات من صناعة السلام وتحقيق الأمن.
يرحل المحتل مرةً أخرى، وتجتاج طالبان البلاد وسط استسلامٍ لافت للجيش الأفغاني، وتبسط سلطانها على العاصمة، ومع أنّ المؤشّرات تبدو جيدة لجهة اختلاف المنطق الطالباني الجديد عن السلوك الذي مارسته قبل عشرين عاماً، فإنّ الفرق المتحاربة لا تزال في أركانٍ متفرقة من البلاد، وإذا لم تطبّق طالبان سياسة مصالحةٍ حقيقية؛ فإنها تنتج الظروف نفسها الجاذبة للاستعمار، ومن المؤكّد حينذاك أنّ لوناً آخر من الاستعمار قادم.
إنها معاناة واحدة وما تقدّمه تجربة كابول يتكرّر حرفياً في سوريا، حيث يمارس السوريون بالحماس نفسه ثقافة القابلية للاستعمار، وعلى الأرض اليوم ستة جيوش نظامية محاربة ،ومن ورائها أكثر من مائة فصيلٍ أجنبي مقاتل، وقد جاء هؤلاء جميعاً بناءً على استنجاد طرفٍ من السوريين، ويمكن القول بأنّ كلّ جيشٍ موجود في المنطقة فهو رغبة من مليون سوري، نادوه واستغاثوا به ،وهم يتوسّلون إليه أن لا يغادر، وأن يضرب بالمليان في خصومه، ولا تزال رايات تركية وأمريكية وروسية وإيرانية يرفعها على أرض الوطن سوريون من أب وأم، ويرون فيها ضماناً لأمنهم واستقرارهم وحصناً من عدوهم الذي هو ابن الوطن نفسه!
إنها حقيقةٌ مرة ولكن لن نتقدّم خطوةً دون أن ندرك أنّ الاحتلال صنيعة أيدينا، وأنّ المحتلّ قادرٌ أن يقنعك بأنه جاء بأهدافٍ نبيلة ؛ طالما كنت تقدّم له المعاذير.
قرار الحياة والبناء والنهضة ليس في موسكو ،ولا في واشنطن بل هو في الحالة الأفغانية في كابول! وفي الحالة السورية في دمشق، وحين يتوقّف قادة المجتمع عن التحشيد والكراهية، ويقبل العلماني والإسلامي أن يعيشا معاً بإخلاص ومحبة، ويتنافسان في إطار اختلافٍ سياسي مشروع ، لا يستخدم لغة التخوين والتكفير ؛فإننا نتقدّم خطوةً نحو استقلالٍ راسخ، يتجاوز أوهام الإلغاء والإقصاء، ويقطع المعاذير التي تأتي بالاحتلال والاستعمار.
إنني أعتقد أنّ أقدس رسالةٍ في هذا الزمن المرير هي رسالة الإخاء ؛أن تستطيع إقناع المتباغضين بنبل نوايا خصومهم، فلا أحد يفعل الشرّ للشرّ، ولا أحد يمارس البغي للبغي، ونكفر بعقولنا حين نفترض الضفة الأخرى بدون ضمير.
وهي في العمق ليست محض رسالةٍ تربوية وأخلاقية، إنها في الجوهر أيضاً رسالة سياسية، تمنع ثقافة الريب، وتؤسّس لفهم أنبل لشكل الحياة وروح المجتمع، وتمنح المختلفين معاذير الاختلاف، وتحول دون أطماع المحتل الخارجي، ونقطع المبرّرات التي تسهّل على الاستعمار وصفنا بالاستحمار.
لا يستطيع أحدٌ أن يركب على ظهرك إلا إذا وجده محنيّاً، وفي السياق نفسه كتب مالك بن نبي، لا تصمت عن قول الحق فحين تضع لجاماً في فمك فإنهم سيضعون سرجاً على ظهرك!!
وإذا استمرّ العلمانيون في وصف الإسلام السياسي بالخيانة والبلاهة، واستمرّ الإسلاميون في وصف الخطاب العلماني بالكفر والردة، فإنّ البلاد ستعيش عقوداً أخرى في عصرالقابلية والجاذبية للاستعمار.
جريدة يكيتي العدد 289