آراء

الأكراد.. خيار الأمريكيين ومأزق الروس!؟

طلال صالح بنان
ما يبدو وكأنه تنسيق وتوافق بين الأمريكيين والروس حول ما يجري في سورية، خاصة في شمالها، إنما يخفي في طياته صراعاً محتدماً على منطقة الشرق الأدنى، امتداداً لذلك الذي يبدو أنه حسم بانهيار منظومة حلف وارسو، بسقوط الاتحاد السوفيتي، وانضمام دول شرق أوروبا والبلطيق، لحلف شمال الأطلسي. لم يقف توسع حلف شمال الأطلسي عند محيط دول أوروبا الشرقية والبلطيق، بل امتدت رقعة توسع نفوذه إلى منطقة القوقاز، على مشارف الحدود الغربية لروسيا على سفوح جبال الأورال الغربية، مما يعيد إلى أذهان الروس هاجس الأمن الذي قض مضاجعهم طوال تاريخهم الحديث، على حدودهم
مواضيع أخرى
كل ذلك لا يكفي يا هيئة الترفيه
الغربية مع أوروبا والغرب، منذ نابليون، وحتى هتلر. صحيح أن الروس، أخيراً، رسموا خطاً على الرمال، في منطقة القرم، عندما واجهوا بحسم محاولات الغرب التوسع تجاه أوكرانيا ومناطق جنوب القوقاز، إلا أن مخاوف روسيا الإستراتيجية من ناحية الغرب، كانت في حاجة إلى متنفسٍ تجاه حلمهم التقليدي بالتواجد في المياه الدافئة، لتجاوز حصار حلف شمال الأطلسي في منطقة البحر الأسود ومضائق البسفور والدردنيل، هذه المرة بالامتداد براً عبر إيران ومنطقة الهلال الخصيب. لكن الأمريكيين يبدو أنهم واعون لهذه الثغرة الجغرافية التي يريد الروس أن ينفذوا منها فكاً لحصار حلف شمال الأطلسي المفروض عليهم في منطقة القوقاز والبحر الأسود، فكان خيارهم العمل على إقامة دولة كردية، في منطقة الأناضول بامتداد حدود العراق الشمالية، وربما إن أمكن حدود إيران الشمالية، بطول امتداد الحدود الشمالية الشرقية لسورية، في المناطق التي يوجد فيها أكراد، حتى ولو كان ذلك على حساب أمن حليف لهم في شمال الأطلسي (تركيا). الهدف النهائي للأمريكيين، والغرب عموماً، هو: محاصرة الدب الروسي في عرينه الجليدي شرق الأورال، ومنع تسلله، إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، أو التدفئة بنفطه وغازه، في منطقة الخليج العربي، وشرق السويس، بصفة عامة. لكن هذا المشروع الأمريكي الطموح، الذي يعكس مصالح إستراتيجية بعيدة المدى، لا يواجه فقط، تحدي مقاومة روسية شرسة، خاصةً بعد أن استثمرت روسيا من مواردها وسمعتها الدولية ومكانتها كقوة كونية كبرى، في ما تفعله هذه الأيام على الجبهة السورية، فحسب… بل أيضاً، مقاومة إقليمية لا تقل شراسةً، عن تلك التي يتوقعونها مستقبلاً من الروس. تركيا لن تسمح، بإقامة دولة كردية، حتى ولو لم تضم أراضي كردية في تركيا نفسها، باقتطاع أجزاء من سورية والعراق. تركيا لديها ما يكفيها من مشكلات في التعامل مع القضية الكردية في داخلها، التي هي أساساً بسبب تطرف الأكراد في نشاطهم الانفصالي الذي تغذيه القومية الكردية… دعك من الخطر القومي الناجز والواضح، لو تمكن الأكراد من إقامة دولة كردية استقطاعاً، من أراض سورية والعراق.
تركيا على استعداد لخوض حرب، لو ضُمّت مدينة كركوك العراقية لإقليم كردستان، ما بالك لو اقتطع إقليم كردستان بأكمله مع أجزاء من شمال شرق سورية لإقامة دولة كردية. لذا نجد تركيا، هذه الأيام تحاول إقامة منطقة آمنة على حدودها الجنوبية مع سورية، بمساحة خمسة آلاف كيلو متر مربع – تقريباً نصف مساحة لبنان – تغطيها مظلة حظر طيران، تشمل المناطق التي دخلها الأكراد وطردوا منها العرب، ليس حباً في عودة العرب إليها، لكن كرهاً في بقاء الكرد بها.
إيران أيضاً، مهما بدا من تواطئها وتحالفها مع الروس على الجبهة السورية، الذي يمكن أن يتطور بوجود إيراني في الهلال الخصيب العربي، إلا أنها لن تتسامح في إقامة دولة كردية (سنية) في شمال العراق وشمال شرق سورية، لأن ذلك – عاجلاً أم آجلاً – سيترتب عليه امتداد حمى القومية الكردية إلى مناطق شاسعة من شمال إيران. إيران، هذه الأيام، تخوض حرباً وجودية على حدودها الشمالية الغربية مع العراق، ضد الانفصاليين الأكراد الذين يتلقون الدعم من إقليم كردستان العراقي، بالرغم ما يبدو من وجود إيراني كاسح في العراق.
لن ينجح خيار الدولة الكردية، الذي يعمل الأمريكيون على تحقيقه في المنطقة؛ لأن الغرب هذه المرة ليس وحده من يرسم خريطة المنطقة، كما كان الأمر نهاية الحرب الكونية الأولى بمغامرة اتفاقات سايس بيكو. دولة عظمى أخرى (روسيا) تمسك بالمسطرة والقلم مع الغرب، هذه المرة. بالإضافة إلى أنه هذه المرة، عكس ما كان عليه الوضع، قبل مئة عام عندما رسمت خريطة المنطقة في اتفاقات سايكس بيكو، هناك قوىً فاعلة إقليمية، تركيا بالذات، لن تسمح بمخططات موسكو وواشنطن يكون لها الكلمة الفصل في رسم خريطة جديدة للمنطقة. كما أن شعوب المنطقة، لا يمكن استبعادها من حسابات الدول العظمى، كما هو الحال من مئة سنة. صمود حلب ومقاومة المدن والبلدات العربية السنية في شمال سورية ووسطها، بما فيها منطقة دمشق وريفها حتى درعا جنوباً، تشكل أكبر تحدٍ لمخططات الروس والأمريكيين، سويةً، بالرغم من الاختلال الخطير في موازين القوى. الأمريكيون لن ينجحوا في حصار الروس جنوباً، كما نجحوا في تضييق الخناق عليهم، من ناحية الشرق، بمحاولة إقامة دولة كردية في المنطقة. لن تنجح واشنطن في ذلك، ليس بفعل جهود الروس المتطرفة في عنفها التي تسعى لإيجاد موطئ قدمٍ لهم بأي ثمن على شواطئ البحر المتوسط الدافئة، لكن بسبب طبيعة الجغرافيا السياسية التضاريسية والسكانية والتاريخية للمنطقة. هذه الأسباب نفسها التي تقود لفشل الأمريكيين في رهانهم على الفَرَس الكردي في صراعهم الكوني مع الروس، هي تماماً التي تحدد مدى صعوبة المأزق الذي وضع الروس أنفسهم فيه، في بحثهم التاريخي عن منفذ بري لهم للمياه الدافئة شرق المتوسط تقيهم زمهرير عرينهم الجليدي المتجمد. في مستنقع مشروع الدولة الكردية المزعومة، سيعلق الأمريكيون والروس معاً، وربما يغرقون في وحل هذا المستنقع.
عكاظ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى