الأكراد يحسمون مصير أردوغان
مصطفى اللباد
تفصلنا ستة أيام فقط عن الانتخابات البرلمانية التركية المزمع إجراؤها في السابع من حزيران المقبل، والتي ستحسم إلى حدّ كبير مستقبل أردوغان وحزبه وهوية النظام السياسي التركي. كانت الانتخابات البرلمانية في جمهورية تركيا ذات الطابع البرلماني دوماً حاسمة لتثبيت سياسات داخلية وخارجية أو التخلّي عنها لمصلحة غيرها، ولكن الانتخابات المقبلة تكتسي أهمية مضاعفة نظراً لرغبة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان المعلنة بتحويل النظام السياسي التركي من جمهورية برلمانية إلى جمهورية رئاسية. سيسمح امتلاك «حزب العدالة والتنمية» لثلثي مقاعد البرلمان المقبل بتعديل الدستور التركي من دون الحاجة إلى استفتاء شعبي (367 مقعداً من أصل 550 مقعداً)، ما سيعني انتصاراً مؤكداً لأردوغان ودخول تركيا عصر «الأردوغانية» من أوسع أبوابها. أما في حال حقّق حزب «العدالة والتنمية» 276 مقعداً فقط، فسيتمكن الحزب من تشكيل الحكومة بمفرده ـ كما هو الحال الآن ـ وبالتالي ستخفف هذه النتيجة من الآثار السلبية المتوقعة على أردوغان وطموحه العارم. ولكن في حال أخفق الحزب بالحصول على الأغلبية البرلمانية، فسيُضطّر إلى الدخول في ائتلاف حكومي مع أحد أحزاب المعارضة. وفي هذه الحالة يمكن الحديث عن خسارة انتخابية لأردوغان وحزب «العدالة والتنمية». في هذا السياق، يبدو أن حزب «الديموقراطية الشعبي» (كردي يساري) سيكون المؤشر على النتيجة العامة للانتخابات، برغم أن أقصى طموحات هذا الحزب تكمن في تخطّي حاجز العشرة في المئة اللازمة للتمثيل بالبرلمان ـ وفق موادّ الدستور التركي. ومردّ ذلك أنه في حال أخفق حزب «الديموقراطية الشعبي» في تحقيق تلك النسبة، فستذهب كل الأصوات التي حصدها لمصلحة الحزب الأكبر (حزب «العدالة والتنمية») وفقاً لقانون الانتخابات التركية، ما يعظّم فرص أردوغان في فوز انتخابي كبير. أما في حال تخطي الحزب اليساري لحاجز العشرة في المئة، فعلى الأرجح سيفقد أردوغان وحزبه أغلبيتهما البرلمانية الحالية.
خريطة الأحزاب التركية المتنافسة
حزب «العدالة والتنمية»: يملك الحزب حصة الغالبية المطلقة في البرلمان الحالي المقدرة بحوالي 312 مقعداً من أصل 550 مقعداً هي كل مقاعد البرلمان التركي. وتشير استطلاعات الرأي إلى تفوق الحزب على منافسيه، ولكن بنسبة تتراوح بين أربعين وخمسة وأربعين في المئة فقط كحد أقصى، قياساً بحوالي 49 في المئة في الانتخابات البرلمانية السابقة العام 2011. يملك الحزب نفوذاً شعبياً كبيراً في الأناضول خصوصاً، وبين سكان المحافظات التركية المختلفة وبين مهّمشي المدن الكبرى. فاز الحزب الواقع على يمين الوسط بكل الانتخابات التي أجريت في تركيا منذ العام 2002 وحتى الآن على خلفية نجاحات اقتصادية متتالية، لكن تباطؤ النمو الاقتصادي وتزايد مؤشرات النزعة الشمولية لزعيمه أردوغان قرعت نوافذ الخطر في تركيا وداخلها، لأنه يطيح بكل توازنات النظام السياسي التركي. المفارقة أن الانتخابات المقبلة ستحسم مصائر أردوغان الطامح في تعديل هوية النظام السياسي التركي، وأيضاً مصير داود أوغلو الذي يترأس الوزارة منذ تسعة شهور ويخوض الانتخابات البرلمانية لأول مرة وهو على رأس الحزب، ولم يفلح حتى الآن في إقناع الأتراك بأنه يستطيع الخروج عن عباءة أردوغان.
حزب «الشعب الجمهوري»: يُعدّ الحزب من أقدم الأحزاب التركية الجمهورية. أسسه مصطفى كمال أتاتورك العام 1923، ومثّل الحزب الواقع في يسار الوسط تاريخياً المؤسسة العلمانية في تركيا. يملك الكتلة الثانية في البرلمان التركي بحصة مقدارها 125 نائباً، ويحظى بنفوذ معتبر في مدن الغرب التركي أزمير وبورصة وأنقره واسطنبول. زعيمه كمال كليشيدار أوغلو يترأس الحزب منذ العام 2009 وأخفق في تحسين مركز الحزب بصورة ملموسة حتى الآن، لذلك، إذا ما حقق أردوغان أهدافه، يتوقع أن يستقيل كليشيدار أوغلو من رئاسة الحزب. بهذا المعنى، تعدّ الانتخابات البرلمانية المقبلة تقريراً لمصير زعيم المعارضة التركية أيضاً.
حزب «الحركة القومية»: تأسس الحزب اليميني القومي المتطرف العام 1969، يملك ثالث أكبر كتلة في البرلمان التركي ومقدارها 52 نائباً. يحظى الحزب بنفوذ تقليدي في شرق تركيا على خلفية قومية طورانية متعصبة، إذ هو معادٍ للأكراد والأقليات. زعيمه دولت باهتشلي يستهدف أردوغان باتهامات الفساد التي تحيط به وعائلته. ومع ذلك، يُعدّ الحزب الأقرب عملياً للدخول في تحالف كبير مع حزب «العدالة والتنمية»، في حال أخفق الأخير في الحصول على الغالبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة بمفرده. من المتوقع أن يستقطب حزب «العدالة والتنمية» أصواتاً ذهبت تقليدياً لمصلحة باهتشلي وحزبه، بسبب لغة الخطاب القومية المتشدّدة التي يتبناها أردوغان في الحملة الانتخابية الراهنة.
حزب «الشعب الديموقراطي»: برغم أن الحزب يأتي رابعاً من حيث الكتل التصويتية برصيد 29 نائباً فقط في البرلمان، إلا أن هذا الحزب يُعدّ رمانة ميزان النتائج في هذه الانتخابات. ويعود السبب في ذلك إلى أن نجاح الحزب في تخطّي حاجز العشرة في المئة اللازمة للتمثل بالبرلمان، سيُحرم حزب أردوغان من الحصول على هذه الأصوات (ينص القانون الانتخابي على ذهاب كل أصوات الأحزاب التي لم تنجح في تجاوز حاجز العشرة في المئة إلى الحزب الأكبر)، وبالتالي البقاء تحت حاجز تسعة وأربعين في المئة من المقاعد. وعياً من الحزب بصعوبة تخطي حاجز العشرة في المئة، فقد عمد مرشحوه إلى الترشح للبرلمان في الدورتين السابقتين كمستقلين، ما مكّنه من حصد كتلته الراهنة. ولكن مع نجاح زعيمه الشاب الكردي اليساري صلاح الدين دميرتاش في إحراز نسبة 9,7 في المئة في انتخابات الرئاسة الأخيرة، فقد توجّه الحزب إلى التقدّم إلى هذه الانتخابات بقائمة كاملة. ومن المعلوم أن أصوات الأكراد حسمت السباق الرئاسي لمصلحة أردوغان على خلفية محادثات السلام التي أجراها مع «حزب العمال الكردستاني» المحظور في تركيا ولم تكلل بالنجاح حتى الآن. تعرّضت مقار الحزب في المدن التركية المختلفة الى اعتداءات ممنهجة خلال الأسبوعين الماضيين (أكثر من 126 اعتداء)، ما يشير إلى قلق أردوغان المتعاظم من قدرات حزب الديموقراطية الشعبي. ويزيد من قلق أردوغان أن الحزب الكردي اليساري يمكنه نظرياً الحصول على أصوات يسارية تركية إضافية من خارج دائرة مؤيديه الأكراد المتمركزين في جنوب شرق تركيا والموزعين على مدن تركيا الكبرى.
أردوغان: صدام حسين تركيا
أفرغ أردوغان غالبية مؤسسات الدولة التركية من محتواها، ولعل تحييد الجهاز القضائي إبان النظر في قضايا الفساد التي تخصّ أبناء أردوغان ووزراء حكومته الدليل الأسطع على ذلك. وأردوغان يعتقد أنه في طريقه للإطاحة بكامل توازنات النظام التركي، في حال تمكن من تعديل الدستور إلى جمهورية رئاسية يتربّع هو على عرشها. يريد أردوغان فرض «هوية» على تركيا، مثلما فعل أتاتورك في السابق، مع الفارق أنها تسير في الاتجاه المعاكس. وأردوغان يخرق الحياد الذي يلزمه به الدستور التركي كرئيس للجمهورية ويتجوّل في أنحاء تركيا داعياً إلى انتخاب حزب «العدالة والتنمية». تحوّل أردوغان من مصلح إسلامي معتدل يغازل رجال الأعمال الأتراك والمؤسسات المالية الدولية وجيرانه إبان تنصيبه رئيساً للوزراء العام 2002 إلى شخص يريد الاستئثار بالسلطة في مواجهة كل خصومه، يغضّ النظر عن تجاوزات عائلته ويتدخل في شؤون جيرانه على خلفية شعور مكبوت بأحقية الزعامة. ومثله مثل أبو عدي، يعتقد أردوغان بالمؤامرة الكونية عليه، تلك التي يواجهها بمزيد من التصلب والتشدد والشخصنة وإنكار الحقائق وترويع المعارضين وتحييدهم وخنق حرية التعبير (تركيا تحتل المركز رقم 149 من أصل 180 بلداً على قائمة حرية الصحافة في العالم)، ما يجعل وصف «صدام حسين تركيا» منطبقاً على أردوغان إلى حد كبير. الفارق بين الحالتين يكمن في مؤسسات الدولتين وفي صندوق الانتخابات الذي لم يُلغَ في تركيا حتى الآن. وفي تحذير من احتمالات التلاعب والتزوير في الانتخابات المقبلة، قال الزعيم الكردي مراد قراييلان من معقله في جبال قنديل إن الحزب الحاكم سوف يتلاعب بالصناديق، وعلى حزب «الديموقراطية الشعبي» أن يحصل على 13 في المئة من الأصوات لكي يصعّب فرص التلاعب.
من نكد الدنيا على أردوغان، الذي أجرى في السنوات القليلة الماضية مفاوضات مع الأكراد وحظي بدعمهم في الانتخابات السابقة لذلك السبب، أن الأكراد ـ وليس غيرهم ـ سيحدّدون نتيجة الانتخابات البرلمانية المقبلة، ومعها مصيره وملامح النظام السياسي التركي. تقول القاعدة المنطقية الراهنة إنه في حال دخول أربعة أحزاب («العدالة والتنمية» و«الشعب الجمهوري» و«الحركة القومية» و«الديموقراطية الشعبي») البرلمان المقبل من دون غالبية واضحة لأيّ منهم، سيؤذن ذلك ببداية النهاية لأردوغان وتجربته. لننتظر وسنرى.