الكردي وسيرة التائه في أرض الله
أحمد الزاويتي
هو المولود بالخطأ، فلا المكان المذكور في هويته ولا الزمان، هو الصواب! هو الذي لا یملك جنسیة، فتراه دائما سالكا طريق الهروب، والذي غالبا يضيع، ففي البحر يغرق، وفي البر يُعتقل ويرمى في غياهب السجون.. هو ذلك الباحث باستمرار عن مكان، عندما يجده ويشعر بأمان، رغم الغربة والاشتياق، يبدع فیه، لكن بأسماء الآخرين.. فجَده صلاح الدين عندما سطر بطولاته، سُجل بطلا غیر كردي.. ولو كان فشل، كان كرديا حقيقيا، ومعه خائنا وعميلا.. حتى احتار في أمره أحمد مطر فقال:
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه
لأنه لو قام حقا بينكم فسوف تقتلونه
وغيره الكثير من كرد الدنيا، شرقا وغربا.. فكم منهم عندما برز أصبح غير كردي..؟! في الحروب والفتوحات والغزوات، بل حتى في الأدب والفن والغناء والموسيقى، ناهيك عندما يتلو القرآن.. أما من يرفض إلا أن يكون كرديا، فلا سجل له وهو المحروم من التكريم والتبجيل، والتطبيل والتزمير.. بل حتى من التوظيف..
عش غير كردي لتبدع
أليس ذلك الذي مات مقهورا في باريس أحدٌ منهم؟! فدُفن هناك في مقبرة العظماء!.. “أحمد كايا” عندما غنى طول حياته بالتركية، فكان الرقم الأوّل، فاستلم الجائزة، وأعلن هو بالمناسبة من حسن نية عن رغبته – مجرد رغبة – غناء أغنيته القادمة باللغة الكردية! فسُحبت الجائزة منه.. ورُميت الأحذية علیه.. واستقبل بدلا من الجائزة الضربات بالأقدام والأيادي وبكل ما توفر هناك، فنُفي من تركيا عام 1999 ليموت في منفاه بالغربة قَهرا عام 2000..
يا “كايا” لو أبقيت عن سرّ رغبتك مدفونا لكنت كإبراهيم تاتليساس الذي نَفى في أربيل أن يكون كرديا خشية من العودة إلى تركيا، ومعصوم قرمز غل وغرهم الكثير.. وما المخرج السينمائي يلماز گوناي ببعيد، وهو الحاصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1982 عن فلمه “الطريق” توفي في المنفى بباريس سنة 1984 بعد أن كان قد هرب من سجنه في تركيا قبل ذلك.. هذا هو قدره “هو الكردي” باختصار: عِش غيرَ كردي لتبدع.. وإلا فالموت كرديا في المنفى إن أدركت الهروب..
كُرديتي قَدر.. وديني خَيار
أحمد مفتي زادة نموذج آخر، قاد مع الخميني الثورة ضد شاه إيران ونجح أيّما نجاح، وبعد أداء مهامه كإيراني بامتياز وفكر بأن يكون كرديا أيضا، كان مصيره غياهب السجون واتهامه بالخيانة، حتى إن جفّ هناك ومات.. يا إلهي كرديته ليست اختيارا منه! هي قدره، وهي آية من آياتك، فعندما يكون مسلما هذا هو اختياره يمكنه أن لا يكون مسلما أيضا، فأنت الذي قلت: “لا إكراه في الدين” لكن أن يكون كرديا فهذا قَدره لا يمكنه ألا يكون كذلك، إلا أن يكون مزوّرا لقدر الله سبحانه ويكون كافرا بآياته: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) 13 – الحجرات.
ليس للكردي حتى مَرقد!
أرادوا من سعید النورسی -الذي عُرف في بدایاته بسعید الكردي- ألا يكون كرديا، حتى بعدما قضى نحبه.. لتجرى الدراسات عليه في تركيا بعد نصف قرن من وفاته بأنه لم يكن كرديا! هو الذي وقف بوجه حملة الإلحاد وضد الدين التي قام بها مصطفى كمال أتاتورك وأسقط الخلافة، فحافظ النورسي على ما تبقى من إسلام في تركيا من خلال رسائل النور.. أرادوه ألا يكون كرديا، فلم يكتفوا بسجنه بل حتى عندما مات ودفن توجهت فرقة عسكرية تركية فأخروجه من قبره، ولا يعلم غير الله أين أخذوه، وجعلوه بلا قبر، فلا يجوز أن يكون للكردي حتى مرقد..
في سوريا هو الساكن المؤقت والعراق هو المتمرد دوما
في سوريا، لم يحق له المواطنة، فهو المهاجر جاء من بلاد أخرى، وهو الساكن المؤقت في سوريا.. أما في العراق، فلم يكن أمامه إلا الثورة والتمرد، فكان على الدوام هاربا، ثائرا، مطاردا، ذاك الذي رفض أن يكون مَقودا من قبل النظام، فهو الموصوف من النظام: بالخائن، العميل، المترد والمخرب.. ناهيك عن أنه إسرائيل ثانية.. من كان مَقودا من بغداد ضد آمال شعبه.. فهو الموصوف من قبلها بالكردي المخلص لأنه يعرف كيف يكون ملعوبا به.. لكنه مهما كان له من اسم أو عنوان في بغداد فهو المسمى كرديا “بالجاش”!!
لماذا تقاتلون تركيا في عفرين..؟! ولماذا أجريتم الاستفتاء..؟
مرّ بالقرب مني، زميلي قبل أيام، بعد التحية والسلام، بدأ بالكلام..
– يا أخي لماذا تقاتلون تركيا في هذه الظروف..؟!
– مَن يقاتل مَن؟
– أنتم تقاتلون تركيا.. ألا ترى في عفرين؟!
– تمزح أو أنت جاد..
بدا صديقي جادا، ومقتنعا، لم يكمل الحوار ومرّ سريعا؛ لأستمر في طريقي ويرحب بي زميل آخر، ليقول لي:
– ماذا فعلتم بأنفسكم؟
– ماذا فعلنا..؟
– الاستفتاء..!
– يا أخي.. دون استفتاء يعمل بنا ما بالإمكان، فليكن ما يكن بالاستفتاء..
– مستحيل تصبحون دولة.. ليس لكم بحر.. لو كان لكم بحر لأصبحتم دولة كما إسرائيل..
– الحمد لله اعترفت باننا لسنا إسرائيل..!
فيا أيها العابر على سيرة الكردي الذاتية، هذا هو! لا يعرف الكذب، ولا اللف والدوران، ولا يزعجك بالمقدمات، ولا يستطيع أن يتأخر في هذه المقابلة، هذا هو بصراحة.
السجل المهني
هو الطالب الذكي المسكين العاقل وسط الطلبة المشاكسين، الذين طالما حسدوه، كونه دائما كان يسبق الجميع برفع يده للمعلم ليحل المسألة.. عندما كان أولئك المشاكسون يخططون من أجل الإضراب عن الدرس كان هو يكشف المخطط ويشذ عن قاعدتهم، فكان مراقب الصف يكتب اسمه “الغائب الوحيد” وكان هو الحاضر دون غيره.. وبالتالي كان هو المُعاقب والمُهان في حَضرة المدرسين عند غرفة الإدارة..
هو ذلك الحمّال والكنّاس والحارس الطيب الأمين، الذي عندما يكون موجودا؛ يطمئن الآخرون، الآخرون الذين يرمون له الفتاة وما تبقى من موائدهم حتى يستمر في الأمانة ويكون حَمّالا وكَنّاسا وحاراسا جيدا.. وهكذا اطمأن البرلمانيون العراقيون سنة وشيعة عندما حماهم وحما مبنى برلمانهم في بغداد فوج عسكري كردي منذ عام 2003 ولا يزال، فهم لم يشعروا بالأمان حتى كان حراسهم من الكورد!! فلم تثق السنة بالشيعة ولا الشيعة بالسنة فكان لا بد للكورد أن يحرسوا..
هكذا شكل الجيش العراقي ما بعد 2003 من لوائين كرديين، وكي لا يكون الجيش العراقي كرديا ولو نسبيا، ولا يعود الفضل للكردي عندما يكون كرديا، تم إخراجهم بالتدريج من الجيش العراقي ليصل عددهم إلى أقل من 2%.. أما إذا كان الكردي ضابطا وقائدا أو حتى رئيسا فهذا بصراحة يعني ليس هو، بل هو الآخر في شخصه، شخصه المزوّر لقَدر الله سبحانه..
الأعمال المذكورة في سيرة الكردي المقدمة لكم، كلها تركها قبل نهايتها، لأنه طرد منها بعد كشف هويته، لهذا تجدها في سيرته كثيرة ومتنوعة.. أما الخبرات فكما ترى موجودة؛ لكنها غير مؤهلة للتوجيه والتعبئة والأحزبة والأدلجة.. هذا هو الكردي.. فمُرّ أيها الباحث عن سيرته سريعا، لا يضرنك ما تراه على وجهه من وقار، فلا يفيدك.. كفى والسلام..
مدونات الجزيرة