المرأة صانعة الحياة
ليلى قمر
في مطلع الأغنية الكُردية المشهورة – لاوكي متيني Lawkê metînî – صدحت المغنّيات والمغنّون – وما زالوا – بالتتالي وبأعذب الاأصوات وشدو الآلات الموسيقية بألحانها المشوبة بحنينية العشق المتنوع، مقطعاً يختزل في مغزاه ملمحاً إستدلالياً واضحاً، يشي – وبصراحة مطلقة – الى ذات السياق الذي أنوي أن أوصل فكرته للقارئ، وأعني بذلك العمق التاريخي لأهمية ودور ، لابل، ربوبية المرأة ، حيث يقول المقطع / البداية : – هري يادي تو بَخوَكِيْ أُوْ بِخوَديكِي ( herê yadê tu bi xwekî û bi xudêkî ) – ولكن وكعادتنا يتوه فينا روعة الأداء وتراتيل الناي وما شابه، فيأخذنا الشدو بعيداً عن المغزى والمصطلح ، ومعها بدايات البناء والتأسيس، إن للفهم أو تشكّل الوعي البشري، ومعها البدء في صياغات المفاهيم المتنوعة، ومن نافل القول أنه قد بات واضحاً، ومنذ اللبنات الأولى في تحول المتراكمات من التجارب والمكتشفات ، وبالترافق مع تطور الوعي المكتسب وصولاً الى مرحلة التدوين مع بداية اختراع الكتابة بأشكالها وأنماط تطورها ، والتي يؤكّد كثر من كبار المختصين في هذا المجال، على أنّ بداياتها كانت أيضاً من اكتشافات المرأة.
إنّ المرأة منذ العصور السحيقة ومع اللحظات الأولى للإنفصام البشري مشيمياً عن الطبيعة ، ومع صرخة صراعه الأول في الإستقلال عنها ، لابل وإخضاعها لمصالحه وغاياته ، أصبحت المرأة هي ربة البيت والأسرة ، ومن تحالفهن بأسرهن تشكّلت القبائل ومجاميع القرى – الكهوف أو الرحَل ، ومعها ظلّت هي في سدّة الزعامة والقيادة، وأخذت مهام الترشيد ومن ثم ابتداع الوسائل البدائية، إن للتحكم أو لتسخير البيئة ، وعليه فقد تحكّمت المرأة في حيّزٍ شمل مرحلةَ تعدّ الأكبر في تاريخ البشرية ، حيث كانت الرائدة في القيادة المجتمعية في العصر المشاعي ، كما ولها الفضل الأهم في عصر – مرحلة الأمومة، وخلالها تمّ التأسيس لأهم المنجزات البشرية، من غزل وحياكة وتدجين ورسم، كأولى الخطوات التعبيرية أو ما يمكن تسميتها بالكتابة التصويرية، وتلاها اكتشافات متتالية، ناهيك عن دورها الرئيس كعامل مهم وأساس في تنظيم الحياة الاجتماعية داخل بيئاتها ، والأهم في المهم ، كانت هي الحافظة والناقلة للوعي المكتسب ومعها المبتدع الجديد، أي بصورةٍ أوضح ، فقد كانت صلة النقل بين الموروث وتجاربها المرحلية المضافة الى الأجيال الجديدة، وقد حفلت آثار كثيرة تعود الى مراحل سحيقة في التاريخ البشري، والمتعارف تأريخياً بالمرحلة الطينية ، أي الآثار الطينية المجفّفة والغنية جداً بنماذج تقديسية للأم وتأليهها ، وتعدد نماذج التقديس تلك، وان لم يخلُ الأمر، من تعرضها في العصور اللاحقة الى نوعٍ من التهميش , وإن لم تقضِ على دورها ، لكنها همّشتها مع عدم تناسي تعرّض بعض نماذجها للتشهير والإذلال مثل – خاتونا زمبيل فروش – .
إنّ المرأة وعبر كلّ مراحل تطور الوعي المجتمعي للبشرية كان لها بلا منازع حضور وروحية ريادية في الإبتكار والبناء، ومن ثم التأسيس على ذلك في البناء، وخلق بذور جديدة للإستمرار في التطوير ، ويؤكّد غالبية مؤرّخي تاريخ البشرية على أنه مع اللحظات البدئية لالتقاط الإنسان المؤثرات المحسوسة ، والسعي في السيطرة على الطبيعة واستحواذها ، بأنّ المرأة كان لها الدور الريادي ليس في تأمين مايسدّ الرمق ، بل في اكتشاف ما يؤسّس لأيام أفضل ، وإن مرحلة المشاعية- الإالتقاط، ساهمت كثيراً في تطوير مفاهيم وآلية التعامل مع مكونات البيئة مثل الصخور والحجارة والماء والحيوانات، ومعها الأشجار والنبات ، ومن خلالها كانت بدايات الأستقرار وبناء القصبات، إن بجدل الحشائش مثلاً، أوحياكة بعضٍ من الملابس من سعف الأشجار وأوراقها، وكذلك جلود الحيوانات ووبرها وصوفها ، ولعلّ مسألة اختراع الكتابة التي ابتدأت ايضاً بالرسوم على الصخور أو جدران الكهوف، ومعها ظاهرة النقش في ابتكارٍ يرى كثيرون بأنّ المرأة كانت هي الملهمة فيها.
المقالة منشورة في جريدة يكيتي عدد 288