آراء

المنافَسة الشريفة

محمد رجب رشيد

من الطبيعي وجود تفاوتٍ في القُدرات العقلية والبدنية بين أفراد المجتمع الواحد، ومن حق الأدنى منزلةً محاولة الوصول إلى الأعلى بالمنافسة الشريفة، ولكن من المُستهجن بل من المعيب تحوّل المنافسة الشريفة إلى منافسة بِلا شرف، وسِيادة شريعة الغابة، القوي فيها يأكل الضعيف، فمن يُشغِل نفسه بِهدم الآخرين قد لا يجد وقتاً لبناء نفسه.

تُعتبر المنافسة من أقوى الدوافع التي تتحكّم بِسلوك الإنسان الفرد وتحرِّكاته، في مرحلة الطفولة تكون فطرية إلى حدٍ كبيرٍ ضمن الأسرة الواحدة لِكسب رِضا وعطف الوالدين والحصول على الألعاب والهدايا، وفي مرحلة البلوغ تكون لتحقيق الذات بالدرجة الأولى، أمّا في المراحل اللاحِقة فهي عمليّة منظَّمة تهدف إلى تحقيق المكاسب المعنوية والمادية بِمختلف أنواعهما.

لقد ساهمت ثورة الاتصالات -التي جعلت العالم قريةً صغيرة- في زيادة حِدّة المنافسة على جميع الأصعِدة، حتّى أصبحت ملازِمة للإنسان كَظِلِّه، يتنفّسها كما يتنفّس الهواء، فهو في منافسةٍ دائمة مع الآخرين ومع نفسه للفوز في الدنيا والآخرة.

يتلخّص جوهر المنافسة في المفاضلة بين الناس معنوياً وِفق معايير محدّدة لِمعرفة الصالِح من الطالِح، والأكثر صلاحاً من الصالح، والخبير من الأقل خُبرة. أمّا مادياً فالمنافسة تفرض جودة الإنتاج وتطويره وتنوّعِه وكسر الأسعار، مِمّا يتيح لِكُلّ شخصٍ تأمين احتياجاته بِحسب إمكانياته المادية. إذاً كيف نفهم المنافسة؟ وكيف نمارِسها؟ وما أهميتها؟

المنافسة قيمة مُحفِّزة قبل أن تكون خُلُق فطري تخضع لِغريزة حُب البقاء، تُولد مع جميع أنواع الكائنات الحية -الإِنس، الحيوانات والطيور، النباتات والأشجار .. إلخ- على مستويين، في المستوى الأول تكون بين الأنواع، والغلبة فيها للأذكى (الإنسان) وبدرجةٍ أقل للأقوى (الحيوانات المفترسة والطيور الجارِجة)، أمّا الضحايا فهي بقية الحيوانات والطيور والغطاء النباتي والبيئة. في المستوى الثاني وهو الأهم، المنافسة تكون ضمن النوع الواحد بِأسلوبين مختلفين في الممارسة، المنافسة الشريفة والمشروعة مع الغير، والمنافسة المذمومة والغير شريفة ضد الغير. الأسلوب الأول بمثابة حافِز يدفع الإنسان الفرد إلى بذل المزيد من الجهد في أداء عمله ومهامِه، ويمنحه شعوراً أكبر بالسعادة في سعيه ليكون أفضل وليس الأفضل، لأنّ الأفضل في أي شيء لا حدود له ولا يُدرك. أمّا الأسلوب الثاني فإنّه يؤدّي إلى إفشال الآخر وتحطيمه.

بين الأسلوبين خيط رفيع، قد ينقطِع في أي لحظةٍ لدى البعض، فينقلب (مع الغير) إلى (ضد الغير) أو العكس. من الأهمية بِمكانٍ الإشارة إلى أنّ المنافسة لا تعني المقارنة بأيّ شكلٍ من الأشكال، فالمقارنة ظاهرة سلبية تؤدّي إلى وأدْ روح المنافسة، يصِف الأسطورة ليونيل ميسي العلاقة بينه وبين الأسطورة كريستيانو رونالدو بالمنافسة الشريفة فقط، ولا يحبِّذ المقارنة بينهما.

في المجتمعات المتحضِّرة يُنظر إلى المنافسة كقوّة دفعٍ إيجابية تساهم في تكريس الديمقراطية، وتحقيق إنتاجية أعلى وجودة أكبر من تلك التي تتحقّق عند العمل في بيئاتٍ غير تنافسية. ويُلاحظ ذلك بوضوح في السِباق إلى منصب الرئاسة وشغل مقاعد البرلمان، فضلاً عن إستمرار التقدم التكنولوجي إلى ما لانهاية.

رُبَّ سائل هنا: وماذا عن سِباق التسلُّح في هذه الدول؟

سِباق التسلُّح هو نِتاج البحث العلمي، مثله مثل الاختراعات الأخرى، والسِلاح -بما في ذلك النووي- هو بالنهاية أداة، يمكن استخدامه في الدفاع عن النفس والردع، كما يمكن استخدامه في الشر والتدمير، بمعنى أنّ الأمر يتعلَّق بالإنسان نفسه وليس بالسلاح.

خِلافاً لِما سبق المنافسة في الدول والمجتمعات المتخلِّفة قد تكون حاضِرة في أي مجال، إلّا أنّها غالباً ما تكون شكليّة غير شريفة، نتائجها محسومة قبل بدئِها، الانتخابات والمسابقات مجرّد تحصيل حاصل لا أكثر، وبالتالي لا بدّ أن يكون تحقيق المكاسب المعنوية والمادية على حساب الآخر بعيداً عن الكفاءة والجهد، أو على حساب المصلحة العامة عملاً بشعار (الغاية تبرّر الوسيلة)، أمّا المنافسة في كسر الأسعار فتكون على حساب الجودة تحت شعار (التجارة شطارة).

لا شكّّ أنّ المنافسة في قطاعي الصناعة والتجارة -المتكامِلين والمتلازِمين- هي الأكثر انتشاراً في جميع أنحاء العالم. في قطاع الصناعة تكمُن المنافسة بالدرجة الأولى في البحث العلمي وبراءات الاختراع، بالإضافة إلى جودة الإنتاج وتطويره وتقديم خدمات متميّزة مع مراعاة القُدرة الشرائية للشريحة الكُبرى من المجتمعات المستهلِكة، كما هو الحال في المنافسة بين مصانع السيارات، مصانع الأدوية، مصانع الأدوات الألكترونية وخاصةً الهواتف النقّالة وغيرها من المنتوجات. أمّا في قطاع التجارة فالمنافسة تكون بين الشركات التي تبيع منتجات مماثلة، أو تستهدف نفس المستهلكين لِكسب المزيد من الأسواق وزيادة المبيعات بِغرض تحقيق الأرباح. لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للقطاعات الأخرى مثل السياحة والنقل الجوي وغيرهما.

لعلّ البطولات الرياضية هي الشكل الأرقى للمنافسة الشريفة، لا مكان فيها للتزوير أو التزاحم أو المحسوبيات، ويعود ذلك إلى الروح الرياضية والقواعد الصارمة المُتّبعة في تطبيق قوانين الألعاب بِدقّةٍ من حيث التنظيم والتحكيم وإنزال أقسى العقوبات لمتعاطي المنشطات. وتتخِّذ شكلين رئيسيين هما : المنافسة بين الفرق في ألعاب الكُرات، وبين الأفراد في ألعاب القِوى. لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للتحصيل العلمي في كافة المراحل، وعالم الفن -الغناء، الموسيقا، التمثيل، … إلخ.

تأتي أهمية المنافسة في إتاحة الفرصة لكلّ مَن يريد الصعود إلى قطار السِباق مع الآخرين لِبناء مجده المادي أو المعنوي بغضِّ النظر عن أصله وفصله. بالطبع في كلّ سِباقٍ لا بدّ من غالبٍ ومغلوب. قد يتلاشى فرح النصر، وقد يُنسى حُزن الهزيمة، إلّا أنّ شرف المحاولة يبقى، فالمنافسة أصلها الشرف، فمن لم يُحالفه الحظ يكفيه ذلك الشرف وتعلّم الدروس وأخذ العِبَر، لا سيّما وأنّ إعادة المحاولة تبقى متاحة للجميع متى شاء.

لِنشر المزيد من الجَهل وتكريسه، والإستخفاف بعقول الناس يدّعي بعض المشايخ -مِمّن جعلوا أنفسهم وُكلاء الدين- أنّ المنافسة قيمة أوربية غربية لا صِلة للإسلام بها، وأنّها شرٌّ يُفسِد الأخلاق، وذلك خِلافاً للفِطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى عليها الإنسان ولِما ورد في كتابه، حيث قال: (خِتامُهُ مِسْكٌ وفي ذَلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ)، (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُها السَّمَـاوَاتُ وَالاَْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ص.

ويبقى السؤال الأهم: أين قادة الحركة الكُردية السورية من المنافسة الشريفة على قيادة الحركة؟ وعلى إدارة الأزمات التي تشهدها كُردستان سوريا؟ وعلى تجنُّب الكوارِث التي تحِلُّ بها؟

 

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “299”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى