• تقاطعات ميثولوجية • ( الكرد والامازيغ والاثيوبيين ) قسم 1
وليد حاج عبدالقادر
في مسيرة الحياة البشرية ، ومنذ اللحظات الاولى لهيمنة الإنسان على الطبيعة ، واستقلاله عنها ، ونزوعه للإستحواذ عليها واستغلالها ، هذا الأمر رافقه عبر التاريخ مساعي وطرق تطوير وابتكار وسائل وسبل تنفيذ هذا الأستحواذ، وعلى قاعدة ذلك، ووفق مبدا التداخل البيئي من مناخ وخاصية البقعة – المنطقة او مايمكن تسميته بنمط الإنتاج سواء الزراعي منه او الرعوي بدءا من المشاعية مرورا الى التفرد بكل اشكاله ومظاهره الفردية والمجتمعية ، وصولا الى ظاهرة الموائمة بين انماط واشكال الحياة المجتمعية بالترافق مع آلية واشكال المنتج وطبيعة / نمط وسبل العيش واختراع طرائق الزراعة وما شابه ، وهنا ساختزل : لقد حدد النمط الممارس انتاجيا ، لابل تاسس عليه انماط يمكننا تسميتها ببداية الأسطرة وبناء شذرات لآفاق ميثولوجية ، تكاد ان تتقاطع اشتراكا بين البشرية جميعا ، هذه الانماط التي اختزلت كوعي في مفهوم الاشياء واصلها ، وبالتالي ظاهرة التخصص المناطقي ، ومعها ومن جديد نمط الإنتاج الطقسي بشقيه الزراعي والرعوي ، وعلى هذه الارضية ، تحددت نمط الوعي الميثولوجي المنتج وتحددت ملامح اساسية في محاولات فهم الظواهر البعيدة عن التفسير واشتغل عليها المخيال البشري ، ومن اهمها هنا في هذا الإستعراض هو باختصار شديد ظاهرة راس السنة التي تعددت فيها السبل والطرائق وان التحمت جذريا من جديد بذاته نمط الإنتاج ، فظهرت منها في النمط الزراعي ما يتوائم بيئته وكذلك الرعوي وهلم ذلك ، هذه الظاهرة التي تعممت في بلاد مابين النهرين ومناطق شاسعة جدا.
الامر الذي يدفعني الى استخلاص ثلاثة نماذج وباختصار عن راس السنة ومدلولاتها والنماذج الثلاث هي الاثيوبية والأمازيغية وبلاد الرافدين ومن جملتها الكردية كإرث وتاريخ سطر في مدوناته تراث بشري رائع ، وعليه فقد ارتبطت الملاحم العظمى كما الاحداث الكبرى في غالبية المجتمعات ومنذ بدء الوعي البشري بالبعد المعيشي وطرائق الإنتاج التي طغت عليها الزراعة والرعي اي ومن جديد الطقوس الموسمية فوجدت هناك مناسبتين رئيسيتين : اولها استحضار الأرض للزراعة بحراثتها ومن ثم زراعتها وانتظار موسم جنيها ومعها كانت تاتي احتفاليات المجتمع وكان الاهم فيها هي احتفاليات راس السنة وكما اسلفت فساحدد توجهي في ذكر نماذج ثلاث :
1 – الأمازيغ :
بداهة دعوني اعبر عن الإندهاش الكبير للتشارك الذي – لاحظته – عن تشاركنا مع الشعب الأمازيغي في كثير من الأمور ليس أولها تقسيم وطننا كما وشعبنا بين دول ودول ، وتتحكم فينا خرائط ومنافذ متعددة وليمتد هذا التشابك والترابط الى التجذر الميثولوجي والتكوين المجتمعي كشعوب تجاورت أو عاشت حياة الزراعة والرعي ، أي بنت ثقافتها وتراثها على هذه القاعدة ، ودواعي كل هذه المقدمة هي رأس السنة الأمازيغية فأقول لهم وبلغتهم / إسقاس امقاس / أي عام سعيد .. والتي يوعزها بعض من الأمازيغ – هذا العيد – الى انتصار شيشناق على الفرعون بينما بعض الأساطير ـ والتي أميل لها شخصيا ـ تربطها بظواهر طقسية محددة حيث يبدأ الإحتفال بيوم 12 كانون الثاني كبداية للتقويم ويربطونها بإمرأة عجوز متكبرة ـ تتقاطع قصتها مع قصة أيامات عنتر وجوكا توتواني الكردية / وإن اختلفت في بعض التفاصيل ، حيث صمدت المرأة ولم تمرض رغم برودة الطقس فاستعارت من شباط يوما وهبت فيها عاصفة هوجاء قاتلة أطاحت بالمرأة وقتلتها .. كجزاء لكل مستخف بقوة الطبيعة وإمكاناتها ، وتقول الاسطورة في ( يناير الأمازيغ ) والتي هي عبارة عن طقوس وأساطير بانه في الثاني عشر من شهر كانون الثاني/ يناير من كل عام ، يحتفل الأمازيغ في الجزائر ، على غرار إخوانهم في كل بلدان الشمال الإفريقي من واحة سيوة في مصر إلى مدينة طنجة في المغرب ، برأس السنة الأمازيغية والفِلاحية الذي يسبق التقويم الميلادي بحوالي عشرة قرون . يطلق على الاحتفال محليا اسم “ينّاير” (بتشديد النون) .
وحسل الباحث الانتربولوجي من الجزائر ( مبروك بوطقوقة ) رئيس تحرير المجلة العربية للدراسات الأنثروبولوجية المعاصر ، انه في الثاني عشر من شهر كانون الثاني/ يناير من كل عام ، يحتفل الأمازيغ في الجزائر ، وكل بلدان الشمال الإفريقي من واحة سيوة في مصر إلى مدينة طنجة في المغرب ، برأس السنة الأمازيغية والفِلاحية والذي يسبق التقويم الميلادي بحوالي عشرة قرون. يطلق على الاحتفال محليا اسم “ينّاير” (بتشديد النون) ، وyanuyar وهي كلمة أمازيغية مركبة من كلمتين:
yan وتعني واحد ، وayur وتعني الشهر . كما يطلق على الشهر الأول من السنة الأمازيغية كذلك تسميات “إملالن” و “أقورارن” حسب اختلاف المناطق واللهجات ، وأيضا “بورت أوسقاس” أي ليلة السنة ، ويعتبر البداية السنوية في ممارسة الأعمال الفِلاحية . وتمارس طقوسيات احتفالاتهم وتتنوع من منطقة الى اخرى ، ولكن هناك تقاطعات رئيسة من طقوس مشتركة بين الجميع كذبح ديك او دجاجة ووجبة عشاء فاخرة من أحد مشتقات القمح وثريد يستخدم فيها سبعة أنواع من الخضار. وتقوم المرأة بأغلب طقوس الاحتفال ، وكذا بمشاركة الأطفال ( تعبيرا عن الخصب والنمو ) ، في الوقت الذي يكتفي فيه الرجال بمساهمة رمزية . ونظرا لديمومة واستمرارية هذا العيد.
بالرغم من الإحتلالات المتعددة لبلدانها ومع كل دورة عام جديد يطفو إلى السطح تساؤل عن كيفية تمكن طقوس ينّاير الاحتفالية من الصمود لمدة ثلاثين قرناً دون أن تندثر ويلفها النسيان؟ وللجواب على هذا التساؤل يتوجب علينا العودة ميثولوجيا الى ما يطلق عليه في الأنثروبولوجيا الدينية “لحظة التكوين”، فنجد أنفسنا مجبرين على الالتجاء للأساطير في محاولة لاستكشاف لحظة الولادة الفارقة تلك ، حيث يرى أصحاب نظرية الأصل الطقسي للأسطورة التي ظهرت لأول مرة في كتاب “دين الساميين” لمؤلفه روبرتسون سميث، أن الطقوس القديمة تفقد بمرور الزمن معناها وغاياتها، فتتحول إلى مجرد حركات لا معنى لها. وهنا تأتي الأسطورة لكي توضح أصل الطقس ومعناه، وتقدم تبريراً مقنعاً لتلك الاحتفالات التي تتناقلها الأجيال .
وبالتالي فالأسطورة والطقس مترابطان، ولا بقاء لأحدهما دون الآخر ، فالأسطورة بحاجة للطقس لضمان خلودها ، والطقس بحاجة للأسطورة لتبرير وجودها والحفاظ على فعاليته . وعليه يمكن وباختصار ملاحظة ارتباط إحياء طقوس”ينّاير” بمجموعة من الأساطير التي يرويها السكان المحليون، وأشهرها على الإطلاق أسطورة القائد الأمازيغي “شيشناق” قاهر الفراعنة الذي حكمت أسرته مصر لمدة قرنين ، هذا بالرغم من الإختلاف حول اصله وتختلف الروايات اختلافا كبيرا في أصل “شيشناق ..
وبغض النظر عن صحة المعلومات التاريخية الواردة في مختلف الروايات ، فإن طقوس الاحتفال بـ “ينّاير”، إذا نظرنا إليها من منظور الأنثروبولوجيا الدينية، هي نوع من الطقوس الدورية الكبرى التي ترتبط بأساطير التكوين. فالطقس هنا هو الأسطورة وقد تحولت إلى سلوك يستهدف استعادة الزمن الميثولوجي البدئي حسب تعبير الباحث السوري فراس السوّاح .. )
( وأسطورة “شيشناق” هي مجموعة من الأحداث التاريخية التي حدثت في الزمن الغابر، زمن البدايات، وهي تحكي لنا كيف تشكل الأمازيغ واكتشفوا هويتهم في مقابل الآخر – وهو هنا الفراعنة – وانتصروا عليه وأثبتوا تفوقهم وضمنوا تميزهم. وهذا الزمن الأول تتم استعادته وعيشه من خلال الطقس الدوري، لأن الزمن المقدس ليس زمنا خطيا يمتد من الماضي إلى الحاضر، بل هو زمن سرمدي يمكن للإنسان استرجاعه والدخول فيه، والأمازيغ في احتفالهم بـ “ينّاير” يدخلون في الزمن الأول من أجل الاستعانة بقوة الأصول لتجديد الحاضر وبعث الحياة في المستقبل، وبالتالي المشاركة بطريقة ما في إعادة صنع عالمهم وهويتهم . ) .
إضافة الى اسطورة “شيشناق”، يروي الأمازيغ أسطورة عجوز ،( سنلاحظ انموذجا مقاربا كرديا ايضا لاحقا وان كانت مختلفة عن هذه العجوز وكذلك قصة الماعز او الطائر كرديا بالعاصفة ) استهانت بقوى الطبيعة واغترت بنفسها ونسبت صمودها ضد الشتاء القاسي إلى قوتها، ولم تشكر السماء وشتمت ينّاير قائلة: “لقد مرت أيامك وكأنها ربيع، وها أنت ستغادر ليحل فورار (شهر شباط/فبراير) الذي لن يصيبني فيه البرد ولن تعرقلني فيه الثلوج”. غضب ينّاير كثيرا وطلب من شهر فبراير إعارته يوما وليلة كي ينتقم من العجوز التي شتمته، ( فلبى فبراير رغبته وتنازل له عن يومين من عمره. خرجت العجوز إلى حقلها ومعها قطيعها، وهي مطمئنة بأن ينّاير رحل، وهنا استدعى هذا الأخير البرد والثلوج والرياح القوية، فهلكت هي وقطيعها. وانطلاقا من هذه الأسطورة، أصبح شهر شباط/فبراير أقصر شهر في السنة ! ولا يزال الكثيرون إلى اليوم يخشون “يوم العجوزة” ولا يخرجون فيه للرعي . هذه الأسطورة تتناول الروابط الموجودة بين الإنسان والطبيعة، وهي من أساطير الخصب التي ترتبط بالطقوس الدورية، ويجري تكرار أحداثها واستعادة دورة الحياة فيها بهدف الإيحاء للطبيعة النباتية بالانبعاث بعد انقضاء الشتاء، ودفع دورة الفصول التي لا غنى عنها للحياة الزراعية. وما يقوم به المحتفلون من طقوس لا يتخذ صفة العبادة للقوى العلوية، بل المشاركة مع هذه القوى بالرجوع طقسياً إلى زمانها الأول، من أجل مساعدتها على إعادة الانبعاث من جديد. ومن هنا فقط يمكننا فهم حرص ربات البيوت في هذا اليوم على استبدال الأواني القديمة بأخرى جديدة، وتغيير حجارة الموقد التقليدي، بالإضافة إلى نسج أفرشة جديدة وفي مقدمتها الزربية ليتم استقبال العام الأمازيغي الجديد بألبسة وأفرشة وأوان جديدة، بعد أن تتم إعادة طلاء البيت وتزيينه والتخلص من كل ما هو قديم، كعملية مشاركة لقوى الطبيعة في إعادة الانبعاث المتجددة . )
فأسطورة “شيشناق” وأسطورة “العجوز” وإن كان يبدو للوهلة الأولى أنهما متباعدتان لا صلة بينهما، إلا أنهما وجهان لحقيقة واحدة، لأن التكوين الأول للأمازيغ مرتبط بالخصب الدوري للأرض، والانبعاث الجديد للفصول، الذي لولاه لما كان لهم أن يستمروا في الزمن. فالأرض هي الأم الحاضنة ومنها تولد كل الخيرات التي تسمح بتأبيد وجود هؤلاء الفلاحين. لهذا تحتل الأرض مساحة واسعة في الطقوس التي تقام في “ينّاير”، تمجيداً لهذه الأم واعترافاً بخيراتها وطلباً للخصب والرخاء والغلة الوفيرة ومحاولة لتجنب غضبها الذي يأتي في شكل جفاف وجدب وأوبئة .
2 – راس السنة الاثيوبية :
يتم الاحتفال بهذه العطلة الرسمية في الأول من مسكرم – اليوم الأول في التقويم الإثيوبي . ويختلف التاريخ الدقيق لإنكوتاتاش عن التقويم الغريغوري المستخدم في معظم أنحاء العالم اعتمادًا على ما إذا كانت سنة كبيسة أم لا .
يصادف العام الجديد للبلاد خلال ما يُعرف بموسم الكتف – بعد هدوء الأمطار الطويلة – وهو أحد أفضل أوقات السنة في إثيوبيا حيث يكون الطقس أكثر باردا قليلاً مما كان عليه خلال الصيف .. وكلمة إنكوتاتاش مليئة بالرمزية لأنها لا تعني فقط “هدية الجواهر” ولكنها تمثل أيضًا نهاية موسم الأمطار – وهو الوقت من العام الذي تغطى فيه المساحات الخضراء الإثيوبية الشاسعة بأزهار صفراء زاهية تسمى Adey Abeba .
ويقال بأن الاحتفال بالعام الإثيوبي الجديد يعود إلى الوقت الذي عادت فيه ملكة سبأ من زيارتها للملك سليمان في القدس عام 980 قبل الميلاد . حيث تم الترحيب بالملكة في بلدها بالعديد من المجوهرات، والمعروفة أيضًا باسم “إنكو” في اللغة الوطنية الرسمية . وعادة ما تستمر احتفالات إنكوتاتاش بالعام الإثيوبي الجديد لمدة أسبوع كامل وتدور حول التجمعات العائلية . في ليلة رأس السنة، يضيء الإثيوبيون مشاعل خشبية – تُعرف باسم “تشيبو” في اللغة المحلية – لترمز إلى قدوم الموسم الجديد من أشعة الشمس الآن مع اقتراب موسم الأمطار من نهايته .
…
يتبع القسم الثاني في العدد القادم
المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 299