ثقافة الحرب
بقلم : حسن قاسم
يشير مصطلح الحرب الثقافية إلى صراعٍ ثقافي ونضالي بين الفئات الاجتماعية من أجل السيطرة على قيمها ومعتقداتها وممارساتها، ويشير عامةً إلى الموضوعات التي تُحدِث خلافات مجتمعية واستقطاباً سياسياً في القيم المجتمعية.
لهذا فإنّ الحرب الحقيقية هي حرب ثقافية كما وصفها صاموئيل هنتغتون بأنها حرب حضارات. وهي حرب قيم ثقافية متأصّلة في نفوس وعقول وسلوك أيّ شعبٌ من الشعوب .
لازمت الثقافة تطور الإنسان في مختلف المراحل التاريخية، وتطوّرت عبر عمليات معقدة، وظلّت دائماً تبحث عن سيادتها وسيطرتها الاجتماعية، مستندةً إلى قوة ونفوذ الطبقات المسيطرة اجتماعياً، معتمدةً على قوة الأفكار والفلسفات وعلى السلوكيات الاجتماعية المرتبطة بها .
لقد تطوّر دور ثقافة الحرب، وأصبحت تستهلك الكثير من الفلسفات، كما أنها القوة الأساس المعتمدة لتكوين رأي عام راسخ، بغية تسويغ الحرب وتصويرها بأنها لمصلحة الأمة، وهي ضرورية لإحراز الحقوق ورفع الظلم عن الأمة.
إنّ ثقافة الحرب تسبق الحرب وتمهّد لها، وتستخدم وسائل النشر المختلفة لتركيز «وحدة» الثقافة و«وتوحيد» الأمة، وإنّ أهمية الثقافة الحربية هي أنها ليست منشوراً عابراً أو تصريحاً أو بياناً سياسياً. أصبحت المعاهد والمدارس المختصة بها منتشرة في مختلف دول العالم ؛وذلك لإعداد كوادر الحرب الثقافية والدعائية.
تتسم ثقافة الحرب بالشعاراتية، تصاحبها صيغ الأوامر، وهي لا تهتمّ بالبراهين العقلية أو المراجع، فهي تتوجّه إلى الرأي العام الاعتيادي لتحصينه وتأمين ثباته على أهداف محددة، وتنحو ثقافات الحرب نحو إبراز المظالم التي وقعت على الأمة.
إنّ ترسيخ العداء والاستهتار «بالعدو» وتشديد الكراهية والبغضاء، هي عناصر ضرورية لثقافة الحرب، التي لا تعتمد عند عامة الناس على البراهين العقلية، وتستخدم مصطلحات ومقولات متكررة، وذات طابع بدهي لتعميق الالتفاف حول الشعارات الرئيسية.
إنّ ثقافة الحرب، من شأنها ترسيخ معارف الفخار بتاريخ الأمة بصورة مزورة، والنيل من كرامة ومكانة الشعوب الأخرى، وتقوية خصائص العداء للآخرين واحتقارهم، إنّ السياسات الاستعمارية هي في زمن السِلم كما هي في زمن الحروب، تتوخّى استعباد الشعوب لا تحررها وتقدمها، وتدوس حقوقها الوطنية.
والعامل المشترك الآخر، هو أنّ ثقافة الحرب تولي أهميةّ خاصة لوضع أبناء الأمة إزاء خطر داهم ودائم تمثّله قوة خارجية، وفي الوقت نفسه تركّز الدول الاستعمارية على أنها تتوخّى نشر الحضارة، وأنها تدافع عن قيمها ومبادئها، وتضع نفسها في موضع المعتدى عليه.
إنّ تطور البشرية يضع مسألة تناقض حاد، يتعمق أكثر فأكثر، ذلك التناقض يتجلّى في الوقائع الملموسة الموضوعية التي تفاقمت مع تطور سيطرة رأس المال المالي من جهة، وخواء الظواهر القيمية من مضامينها، فالحرية والديمقراطية وحقوق الشعوب والإنسان، ودلالاتها الملموسة هي التي تشير إلى تعمق الصراع الجاري بين نضال قوى السلم والتحرر من جهة، وقوى الحروب العدوانية المتزايدة والمتسعة النطاق اجتماعياً وجغرافياً من جهة أخرى.
إنّ الحرب مؤشر على وصول التناقضات إلى حالةٌ تناحرية، وهي بذلك تترك آثارها وتداعياتها على الأنشطة الضرورية المختلفة للحياة، إلا أنّ للثقافة الحربية خصوصيتها وتمايزاتها، وكان أخطر ما في الحروب العدوانية أنها وظّفت الثقافة لإنكار المصالح الطبقية، واستخدمت الثقافة لإخراج الحروب العدوانية عن مضامينها الحقيقية، كما استخدمت الثقافة الحربية غطاءً، لتصوير الحرب على أنها ضرورة لكلّ الطبقات الاجتماعية، وإزاء ذلك، فإنّ الثقافة المعادية للحرب ذهبت دائماً إلى تبيان الطابع الطبقي للحروب العدوانية، وقواها الأساسية بما فيها الطابع الطبقي للمتحاربين، كما كان الأمر في الحرب العالمية الأولى والثانية، وحروب إنهاء الإقطاع ..
في أيامنا، في ظرف الحروب الداخلية «الأهلية» يجري تكثيف للأغطية التي من شأنها إخفاء جوهر الحروب، وأبعادها، وعواملها الحقيقية التي تتشابك فيها الأسباب الداخلية، والعوامل والمصالح الإقليمية والدولية، وتأخذ مسارات ثقافة الحرب أبعاداً خاصةً بما فيها الطائفية والقبلية، وتتعقّد الأمور نظراً لأنّ أطراف تلك الحروب، لها خصائص نوعية، في بنية قاعدة الدولة، وهي حروب نجمت بصورة أساسية عن تطور التناقضات الثانوية بين القوى المتحاربة، وهي تناقضات موضوعية ولها تأثيراتها العينية المحددة في الواقع الموضوعي ..
امتازت حروب المنطقة بتصاعد دور وفاعلية نماذج من ثقافات الحروب، التي أبعدت الحقيقة الموضوعية عن جوهر الحروب، وأزاحت القيم الثقافية الوطنية، وأسهمت في تقديم الأغطية للمصالح الإمبريالية، ودورها في التخريب الاجتماعي للدول «النامية»، وهدم قيم الثقافة الوطنية الديمقراطية لاعتماد قيم ثقافية تسهم بقوة في تدمير طبيعة وخصائص البنية المجتمعية، وتركّز تلك الثقافات في الوعي على تبرئة الرأسمالية الاحتكارية من تلك الحروب .
إنّ أية ثقافة لها بنيتها العضوية المكونة من الأفكار، وما يرتبط بها من قيم ثقافية، وسلوكيات اجتماعية، وعادات وتقاليد، وقد شكّلت القيم غير الأساسية والمجردة مصدراً لوعيٍ ضبابي وغير حقيقي، يُرسّخ أسباباً سطحية للحرب الداخلية، ليسهم في إشاعة وحدانية الثقافة في الفئة الاجتماعية الواحدة، ويؤمن أوسع نطاق اجتماعي للتطرف المتبادل، وتؤمّن أفضل المناخات لأقسى أشكال التشهير العقائدي والسياسي والاجتماعي. ناهيك عن التزوير الشديد المتبادل للتاريخ، ويجري إخفاء مسألةٍ هامة في نطاق البحث عن الأسباب المتنوعة لتلك الحروب واشتداد تأثير القوى المتطرفة وتزايد نفوذها.
إنّ الإرهاب يتسع نطاق تأثيره كلما جرى التمركز على النضال الاقتصادي، كلما كان الانفصال عميقاً بين النضال الاقتصادي والنضال السياسي، فكيف والحروب الداخلية تدور في دولٍ عانت أكثر من أربعة قرون من الاستبداد العثماني، ثم جاء الاستعمار الكولونيالي، وبعده الانقلابات والدكتاتوريات التي اعتبرت النضال السياسي كبرى الكبائر .
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد 303