من “استقلال كوردستان” إلى “تحرير أوجلان”؟ (2)
جان كورد
2015-03-25
بدأت منطقة الشرق الأوسط تهتز وتضطرب من أعماقها بقيام ونجاح ثورة الشعوب الإيرانية في عام 1979على الشاه محمد رضا القاجاري، الذي تمكن أباه في وقت سابق لحكمه من انتزاع السلطة الفارسية بتحريضٍ من الغربيين وبمساعدةٍ كبيرة من العشائر الكوردية في جنوب إيران، وبعدها انقلب على الكورد واستفرد بالحكم في طهران، وتأثرت المنطقة الكوردية بشكل عام بنجاح الثورة، ليس في إيران فحسب وإنما في تركيا والعراق وسوريا أيضاً. وهذا كان له تأثير إيجابي واضح على مجمل الحركة التحررية الكوردية، كما صار مبعث مخاوف لتركيا العضو في حلف الناتو الذي اعتبرته الثورة الإيرانية مصدر كل بلاء ومشكلةٍ في الشرق الأوسط، فكان لابد للحكومة التركية في ظل نظام العسكر للجنرال كنعان إيفرين أن يسعى لتطهير المناطق المتاخمة لإيران (شمال كوردستان) من الحركات والمنظمات الماركسية-اللينينة والماوية وكذلك ذات التوجه الإسلامي، وأوجدت لها أدواتٍ من تلك التي تستخدمها “الدولة السرية” على شكل زعامات محلية ومنظمات تمارس العنف ضد الوطنيين والديموقراطيين، لأن ملالي إيران كانوا قد توغلوا إلي الصفوف الأولى لقيادات الثورة وأبعدوا الوطنيين الديموقراطيين وذوي الميول اليسارية بحكم قدرة إمامهم الخميني على إدارة شؤون الثورة وكأنه ساحر عجيب، وهذا ما بدأ يقلق أنقره ومن وراء حكوماتها البورجوازية الفاسدة، وفي الحقيقة فإن الغرب ما كان يتوجس خيفةً من صعود ملالي الشيعي في طهران، بل كان يخاف وصول اليساريين أو الديموقراطيين إلى السلطة مثلما جرى في إيران حينما اضطر الغربيون إلى إسقاط حكومة محمد مصدق غير المرغوب فيه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. ولو كان الغرب يخشى الإمام الخميني الذي كان لاجئاً في العراق، لما سمح له بالمجيء إلى فرنسا لإدارة ثورةٍ ضد أحد أهم أصدقائه وحلفائه في الشرق الأوسط من فيلاّ أعدت له بالقرب من باريس.
وبالتاكيد، فإن اندلاع الثورة في إيران قد فتح شهية تيارين في كوردستان، التيار اليساري الطامح في تغيير الأوضاع السيئة للغاية في تركيا، حيث الأحزاب الفاسدة تزيد الطبقات الكادحة آلاماً وعذاباً، والتيار الديني الذي سئم الخضوع مرغماً للآتاتوركية على مدى عدة عقودٍ من الزمن. ولذا يمكن القول بأن حزب العمال الكوردستاني قد استفاد من الثورة الإيرانية بشكلٍ كبير.
السند الآخر لهذا الحزب في الشرق الأوسط كان وجود وتعاظم حركة التحرر الفلسطينية التي اتخذت من لبنان منذ اندلاع حربٍ أهلية فيها عام 1975 قاعدةً أساسية من قواعد نشاطاتها وفعالياتها السياسية والعسكرية، فالنظام الأسدي في سوريا الذي كان يأخذ أموالاً طائلة من الدول العربية الغنية بذريعة أن سوريا دولة مجابهة لإسرائيل وصار له سندٌ قوي آخر هو نظام ملالي قم في طهران لم يكن يسمح للفلسطينيين بأن يطلقوا طلقة رصاص واحدة على الإسرائيليين من جبهة الجولان السورية. وتمكن الفلسطينيون “اللاجئون في لبنان” من اجتذاب مختلف الفصائل الثورية واليسارية في العالم، في حين أن الكورد لم يتمكنوا من ذلك في كفاحهم من أجل الحرية، ومن تلك المنظمات التي اعتبرت ثورة الشعب الفلسطيني ثورتها بعض التنظيمات التركية والكوردية، ومنها حزب العمال الكوردستاني الذي وجد قائده له ولمجموعته الصغيرة الهاربة إلى سوريا ولبنان ملاذاً آمناً لدى الفلسطينيين الذين ما كانوا ليزعجوا تركيا والأسد وصدام حسين. ومع الأيام تطورت العلاقة بين أنصار حزب العمال وبعض التنظيمات الفلسطينية التي كانت تعتبر قضيتها الوطنية مركز كل الحركات الثورية في العالم، وكانت الدول العربية تغدق عليها بالأموال والسلاح، وزاد من معنوياتها وطاقاتها موقف ملالي إيران الذين حولوا السفارة الإسرائيلية في طهران إلى سفارة فلسطين، وأظهروا أنفسهم أشد جرأةً من كل الدول العربية في دعم القضية الفلسطينية لأنها حسبما قالوا “حركة تحرر وطني” في ذات الوقت الذي شرعوا بإرهابٍ فظيع وقمعٍ لامثيل له ضد “حركة التحرر الوطني الكوردية” في شرق كوردستان التي طالب فيها شعبها بحقوقه القومية المشروعة، وهذا يبيّن أنه كانت لملالي إيران مشاريع محددة في المنطقة وليس دعم حركات التحرر الوطني، إذ ما الفارق بين ثورة الشعب الفلسطيني والشعب الكوردي عملياً وسياسياً؟
واستفاد حزب العمال الكوردستاني أيضاً من حالة عدم الوفاق بين نظامي البعث في كلٍ من سوريا والعراق، بين حافظ الأسد وصدام حسين، حيث كان لكلٍ منهما الأمل في أن يطيح بالآخر ويصبح بذلك القائد الأكبر والأوحد لحزب البعث العربي الاشتراكي. وكان لحافظ الأسد شأن آخر سوى ردع صدام حسين عن احتلال سوريا والسيطرة التامة على حزب البعث، ألا وهو الضغط بطريقةٍ ما على الحكومة التركية لتحقيق مكاسب:
– نيل حقوق الطائفة العلوية المضطهدة التي تعيش في تركيا
– نيل مزيدٍ من حصة المياه السورية من نهر الفرات
– إثارة موضوع لواء الاسكندرون الذي سلمته فرنسا لتركيا في عام 1937
وبنجاح الثورة الإيرانية ووصول ملالي الشيعة إلى الحكم، ازداد حافظ الأسد جرأة في هذا الاتجاه عوضاً عن السعي للتصادم مع إسرائيل التي احتلت جزءاً من الأراضي السورية (الجولان)، حيث بدأ ملالي إيران بالتنسيق معه في مختلف المجالات السياسية والعسكرية وكانت عيونهم على تركيا المعادية للثورة سياسياً والمختلفة مع رجالاتها دينياً، ووجد حافظ الأسد ضالته في حزب العمال الكوردستاني وحركة (آجيجيلر) التي يسيطر على قيادتها العلويون من لواء الاسكندرون، ففتحت دمشق أبوابها للسيد عبد الله أوجلان وسمحت له بتجنيد المئات من الكورد السوريين وتدريبهم في وادي بعلبك اللبناني، تمهيداً لإرسالهم في دفعات صغيرة إلى شمال كوردستان المتاخمة للحدود السورية، ولكن بشرط أن تظل العلاقات بين نظام حافظ الأسد وحزب العمال سرية، وذلك خوفاً من أن تدعم تركيا المنظمات والأحزاب السورية الدينية المطالبة بالتخلص من نظام الأسد العلوي، وقد تغزو تركيا القوية سوريا الضعيفة، فيهتز النظام بسرعة ويسقط. ولذلك ظلت معظم نشاطات حزب العمال التحضيرية للثورة في معسكرٍ داخل الأراضي اللبنانية وليس في سوريا. ودعمت إيران الخطة كلياً. والملاحظ هنا أن رئيس حزب العمال الكوردستاني الذي اعتبر نفسه مديناً لنظام الأسد ولم يترك دولةً أو قيادةً أو حزباً أو آيديولوجيةً غير ما يؤمنن به شحصياً إلا وهاجمها في خطاباته ومقابلاته، التي تحولت إل كتبٍ ضخمة وكثيرة لتثقيف رفاقه ومؤيديه، قد تفادى انتقاد نظام البعث السوري أو نظام ملالي إيران حتى اليوم، وكل ما قاله السيد أوجلان عن حافظ الأسد هو مدحٌ لم يقم به حتى أقرب المادحين للأسد في دمشق ذاتها.
وهكذا بدأت ثورة حزب العمال الكوردستاني في شمال كوردستان في 15 آب 1984 وهي تحمل لافتةٍ كبيرة عن “حرية الشعب الكوردي” و”تخليص الشعوب من قهر الإمبريالية والرجعية والصهيونية”، وسرعان ما تحولت إلى نار ٍ سرت في الهشيم، لتتحوّل كوردستان تحت جنازير الدبابات وقصف الطائرات إلى آلاف القرى المهدمة والمزارع المحترقة والمعتقلاتٍ الرهيبة والتشرّد الواسع النطاق والمقابر الجماعية، لأن الجيش التركي معروف بوحشيته وغرور ضباطه وأسيادهم الطورانيين، فتاريخ قمعهم لثورات الشعب الكوردي معلوم لكل من يريد قراءته بنفسه.
نتابع في مقالٍ آخر عما حدث فعلاً في كوردستان منذ اندلاع ثورة حزب العمال الكوردستاني في عام 1984…
من “استقلال كوردستان” إلى “تحرير أوجلان”؟ (1)