آراء

متحف الحاج نعمان إنجازٌ عظيم بجهود شخصية

برزان شيخموس

بلا أدنى شك تحتلّ مدينة عامودا مكانةً رائدة في جميع المجالات والأصعدة بين المدن الكُردية في عموم كُردستان ، كونها ولّادة لعشرات بل مئات المبدعين والمميّزين في جميع نواحي الأدب والفن والثقافة ، منجبة المثقفين والكتاب لمبدعين ، وكان لها نصيب موازي من الكوارث والمصائب كخرج أو ضريبة لإبداعات أبنائها وثقافتهم العالية إلهاماً لرفع الوعي العام ،الأمر الذي لم يرق للأنظمة الحاكمة في دمشق .

إبداعٌ جديد مختلف تعجز الحكومات عن إنجازه والحفاظ عليه كموروثٍ حضاري لشعبٍ أو أمة قام به الحاج نعمان حاج يونس كُنرش من خلال إقامة متحف تراثي، يحتضن في جعبته تاريخ أمة من خلال الحفاظ على آلاتها وأدواتها البدائية التي شقّ بها الإنسان حياته بغية الوصول إلى مستقبلٍ أفضل وحداثة مرجوة.

يمكن أن لا يلفت الأمر بال القارئ أو المتابع كثيراً في بادئ الأمر ، و يصفه بجمع أدوات مستعملة ليس أكثر, إلا أنّ محتويات المتحف تبهر العين وتخلد في الذاكرة والقلب ؛ ليس للكد والتعب والوقت الذي استغرقه الحاج في الجمع والبحث ، بل لأنّ ما قام به الحاج إنجاز لشعبٍ، ثقافته وتراثه مهدّد بالاندثار والضياع والتلاشي ،كون الشعب الكُردي لم يكن صاحب حكومات أو وزارت تهتم بالتراث ، ولم ينشئ له أحد متاحف ومعارض.

الحاج نعمان حاج يونس كُنرش من مواليد مدينة عامودا ، حاصل على شهادة الثانوية منذ عام 1980، أُجبِر على ترك تحصيله العلمي بعد وفاة والده ليتفرّغ لإدارة محله ( باب رزقه) كونه أصبح معيل أسرته, الحاج نعمان إلى جانب عمله كان ملمّاً بالأدب والثقافة الكُردية وخاصةً الشعر، وصدرَ له أكثر من ديوان شعري, كُنرش معجب ومتيّم بقصائد ودواوين الشاعر الكبير ملايي جزيري وهناك العديد من أبناء المدينة الذين تتلمذوا على يديه في حفظ وإنشاد أشعار الجزيري.

كلّ ما مضى يعدُّ غيضٌ من فيضٍ أمام الإنجاز الكبير الذي قام به الحاج نعمان من خلال إنشائه لمتحفه القابع في باحة داره وقبوه ،والذي يحوي في جنباته عديد الأدوات والآلات التراثية التي استخدمها الآباء والأجداد في سبيل ديمومتهم، إلى جانب التحف الحجرية التي ترمز إلى وجود الشعب الكُردي في هذه الأرض منذ آلاف  السنين مدحضةً الأقاويل التي تدّعي بأنه مهاجر، وقد حلّ في المنطقة منذ أمدٍ ليس بالبعيد.

الحاج نعمان كنرش استضافته جريدة يكيتي لإلقاء الضوء على متحفه والذي أعاد سبب تأسيسه للمتحف إلى حبه واحترامه لكد وجهد الآباء والأجداد في ديمومة حياتهم رغم الظروف الصعبة، من خلال تلك الأدوات البدائية وارتأى بنفسه ضرورة الاحتفاظ بها وحمايتها من خلال مكان صغير تجمع فيه ليكون متحفاً ومعرضاً للأجيال القادمة، ليرى بنفسه كيف شقّ السلف طريقه لديمومة هذا الشعب, كنرش أوضح أنه كان يتلمّس أنّ معظم الأهالي كانوا لا يولون أي اهتمامٍ لتلك الأدوات خاصةً بعد قدوم الاحدث والأكثر تطوراً إلى المنطقة، فأضحت معظمها مهملة وأداة للبيع والشراء من خلال المقايضة مع باعة متجوّلين مقابل بضائع جديدة منها الزجاجية أو البلاستيكية.

ابن مدينة عامودا قال” في بادئ الأمر قمت بالاحتفاظ بالأدوات والآلات القديمة والتراثية التي كانت موجودة في منزلنا ، ومنها سلال القش والأواني الفخارية والنحاسية بالإضافة إلى الأدوات التي كانت تستعمل منها في حراثة الأرض وجني المحصول ،ويذكر منها الأواني المصنوعة من النحاس كالأواني والحلل وأدوات لمّ المحاصيل والقش وأدوات درسها بالإضافة إلى المحراث القديم الذي كان تجرّه الدواب”.

المعرض يذهل المرء وتنطبع صوره في الذاكرة والقلب مما فيه من أحاسيس ومشاعر مرهفة تعيد بالإنسان إلى عهدٍ جميل قد مضى ، خطّه الآباء والاجداد بكدّهم وجهدهم وعمل عظيم ابتدعوا من خلاله زهد وبساطة الحياة التي كانت مفعمة بالمشاعر والأحاسيس والقيم النبيلة بعيداً عن التصنع والتزلف.

المتحف الأنيق والذي يجمع في طياته ما بين التراث ومشقة الحياة مختلف الأدوات والآلات من أواني المنزل إلى المطبخ إلى النجارة إلى الغزل إلى الزراعة والحصاد إلى أدوات التحميل والعتالة إلى أدوات التجارة والبيع والشراء من خلال ميزان بدائي كان يحمله العمال بغية وزن المواد والمنتجات المعروضة في الأسواق حينها.

في جولةٍ داخل المتحف تحدّث نعمان كنرش عن أنّ معظم المواد المستخدمة حينها تمّ جمعها من خلال شرائها من البعض وأخرى تبرّع بها أصحابها للمتحف بغية الحفاظ عليها, ومن ضمن محتويات المتحف معظم المواد التي استخدمها السلف من أواني نحاسية وفخارية ومنها الحلل والصحون والمناسف وآلات الطبخ والطهي والإنارة من خلال نماذج عدة تشهد تقدمها عبر أعوام وعقود، منها المعتمدة على المواد الأولية كالحطب وصولاً إلى المشتقات النفطية, بالإضافة إلى معداتٍ كانت تستخدم لإنتاج مؤونة الشتاء وعلى رأسها حلة طهي القمح وطحنه من خلال تواجد حجارة كبيرة مجوفة مع مطرقة كبيرة خشبية تستخدم لدقّ القمح ضمن الحجر إلى جانب عدة أنواع من حجر الرحى التي كانت تستخدم لطحن القمح والعدس مع وجود حلل نحاسية كانت تستخدم لطهي اللحم قبل تخزينه كمؤونة للشتاء (قلي) وأخرى تستخدم لصناعة الدبس من العنب.

في سياقٍ آخر يحوي المعرض أدوات العمل كأدوات النجارة مثل المنشار الكبير الذي أشار اليه لنا الحاج وأدوات أخرى كانت تستخدم لأثاث البيت المنزلي والذي كان يعتمد أغلبه على الخشب من أبواب وشبابيك وخزن باستخدام القليل من الحديد والحجارة للتثبيت وتسهيل حركتها من خلال الفتح والإغلاق.

في السياق ذاته أرشدنا الحاج نعمان إلى أدوات الحراثة كالمحراث القديم الذي كانت تجره الدواب وأدواته من رأس المحراث (هالت) إلى الحبال التي كانت تربط بها الدواب إلى القطع الخشبية التي كانت توحّد عمل الدواب والمسمّى (نير), بالإضافة ألى أدوات الحصاد والدرس كالمناجل والجنجرة.

بالإضافة إلى كلّ ما ذكر هناك العديد من المصنوعات النسيجية والمصنوعات من القش والتحف والأسلحة القديمة المرصعة ومزهريات وزخارف ولوحات, متحفٌ عظيم رغم الإمكانات المتواضعة ،يحوي في جنباته ما يعجز عن وصفه ضمن مادة إعلامية أو عدة مواد إعلامية  وهو نتاج عمل عظيم وايمان راسخ أنتجه شخص الحاج نعمل ليكون هديةً للخلف وجزاءً لكدّ السلف ، وفي سبيل ترسيخ دعائم وأسس شعبٍ يعاني هو وموروثه من الضياع والاندثار من خلال المحاولات المتلاحقة لطيه في صف النسيان وإزالة وجوده من خلال حملات عديدة منها محاولة مصادرته والمحاولة مجدداً في تعريبه وتتريكه وفرسنته , لكن بلا أي شك سيظلّ التاريخ الناصع راسخاً ليكون الأساس لشعبٍ أصيل يعيش على أرضه التاريخية رغم جميع محاولات صهره من خلال  المناضلين أمثال الحاج نعمان وكلٌٌّ في مجاله.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد (٢٩٠)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى