كارثة الزلزال والجرح السوري المفتوح
عبد الباسط سيدا
سألوا أحدهم: هل كان الذين قتلوا أباك راجلين أم راكبين؟
فكان جوابه: ومالفرق؟
مثَل كُردي
هذا المثل ربّما يلخّص ما حصل للسوريين ضحايا الزلزال الذي ضرب جنوب وجنوب شرق تركيا وشمال غرب سوريا فجر يوم الاثنين تاريخ 6-2-2023. فهناك مَن يحمّل الأمم المتحدة المسؤولية الأكبر؛ وهناك مَن يتحدّث عن مسؤولية الدول الفاعلة في الملف السوري أيضاً، وهي الموجودة على الأرض، التي كان في إمكانها تخفيف أعداد الضحايا عبر تقديم الآليات والتقنيات الضرورية، الأمر الذي كان سيساهم في إنقاذ حياة المزيد من الأرواح الذي ظلّ أصحابها على مدى أيام تحت الأنقاض، وكانت آمالهم وتوقعاتهم أن يأتي مَن ينقذهم، لكن انتظارهم امتدّ حتى واجهوا الموت، وهو الذي ربّما كان في حالتهم المنقذ الأرحم، إذ وضع حداً لعذاباتهم وآلامهم، طالما لا فائدة تُرجى من أولئك الذين أتحفوهم بالشعارات والمبادىء وقيمة الإنسان كإنسان.
سمعنا تصريحاتٍ من مسؤولين أمميين من بينهم المكلّف بالملف السوري غير بيدرسن نفسه، تدعو إلى ضرورة عدم تسييس المساعدات، ولكنّ الذي حصل أنّ التقاعس الدولي كان سيد الموقف على صعيد ضرورة بذل الجهود السريعة لإنقاذ مَن كانوا تحت الأنقاض في شمال غرب سوريا. فاللحظات الأولى كانت تستوجب تدخلاً إسعافياً عاجلاً لإنقاذ الأرواح التي كان من المؤكد أنّ المسافة بينها وبين الموت قصيرة جداً. الكلُّ اختبأ خلف الأمم المتحدة ومجلس الأمن تحديداً، وهو المجلس الأكثر فشلاً ،الذي أخفق في معالجة معظم القضايا المعروضة عليه منذ عقود، والسوريون تحديداً لهم تجربة مريرة مع هذا الملجس الذي استخدمت فيها روسيا حق النقض الفيتو 17مرة ، منها 10 مرات مع الصين، لتعطيل أي قرار يدين سلطة بشار الأسد، أويخفّف من محنة السوريين. وتقصير الأمم الأمم بات مكشوفاً فاضحا،ً حتى أنّ وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسّق الإغاثة في حالات الطوارىء مارتن غريفيث اضطرّ إلى الاعتراف بذلك عبر تغريدةٍ كتبها على التويتر بتاريخ 13-2-2023 جاء فيها: ” إنهم (السوريون في شمال غرب سوريا) محقّون في شعورهم بأننا تخلّينا عنهم”.
أما الدول الموجودة بقواتها ومعداتها العسكرية على الأرض السورية، فقد كان في استطاعة جميعها، بغضّ النظر عن مواقفها من السوريين والسلطة، أو مواقفها من السلطة والسوريين، وذلك بناءً على أولوية الجانب الإنساني الذي أكّد عليه الجميع، أن تقدّم المعدات المطلوبة لإنقاذ الناس من تحت الأنقاض؛ وكان تأمينها أكثر من السهل، ولكنها لم تفعل. حتى سلطات الأمر الواقع وفي المقدمة منها سلطة بشار نفسه، كان في مقدورها السماح للسوريين في مناطقها بالوصول إلى المناطق المنكوبة التي كانت تحتاج إلى التدخل السريع، ولكن الجميع لم يفعل المطلوب. أما النتائج فهي التي نراها جميعاً اليوم. وهنا لا بدّ من التنويه بالجهود الكبيرة المخلصة التي بذلتها فرق الدفاع المدني في الشمال السوري، (الخوذ البيضاء) التي تحرّكت منذ اللحظة الأولى، واعتمدت على إمكانياتها الذاتية، واستطاعت إنقاذ حياة الكثيرين، وكان في مقدورها أن تفعل الأكثر لو امتلكت المزيد من الآليات والتقنيات والإمكانيات.
لقد تحجّجت سلطة بشار بالعقوبات الأمريكية، وأصرّت على مبدأ السيادة، وطالبت بأن تكون كلّ المساعدات عن طريقها بحجة السيادة، هذا مع العلم أنّ مبدأ السيادة الذي مهّدت له معاهدة وستفاليا 1648 يقوم على ثلاثة أركان هي: الإقليم والشعب والسلطة. وفي الحالة السورية لم يعد البلد موحّداً، بل موزّعاً بين جملة مناطق نفوذ لا تتحكّم سلطة بشار بأي واحدةٍ منها. والشعب هو الآخر موزّع بين هذه المناطق، وأكثر من نصفه خارج نطاق المناطق التي من المفروض أنّ السلطة تسيطر عليها، أو في دول الجوار. أما السلطة فقد تمّ تقسيمها بين الروسي والإيراني والتركي والأمريكي، وكلّ هؤلاء دخلوا من دون أي قرار من قبل مجلس الأمن، ولكن حينما يتعلّق الأمر بمساعدة السوريين من ضحايا حرب الأسد، أو الزلزال يلوذ الجميع بمجلس الأمن المشلول أصلاً.
وفي محاولةٍ لتخفيف وتسهيل وصول المساعدات، علّقت السلطات الأمريكية إجراءات قانون القيصر الخاصة بمنع التحويلات إلى سوريا، وكان السؤال هو: ألم يكن بالإمكان ربط ذاك التعليق بإلزام سلطة بشار بالسماح للسوريين الراغبين في مساعدة أهلهم وأبناء شعبهم في الشمال السوري بالآليات الثقيلة المطلوبة لرفع الأنقاض وإنقاذ العالقين؟
قبل الزلزال كانت السلطة المعنية قد بدأت حملة علاقات عامة في الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى، وذلك من خلال السوريين المرتبطين بها من أجل رفع العقوبات المفروضة عليها، أو التخفيف عنها، وجاء الزلزال ليكون فرصة للسلطة لتخرج من العزلة، وتستغلّ انشغال العالم بالحرب الروسية على أوكرانيا، وانهماك دول المنطقة بحساباتها الخاصة، سواءً الانتخابية منها أم التنافسية والاستباقية؛ خاصةً في أجواء عدم وجود نية أو إرادة دولية تركّز على ضرورة التوصل إلى حلٍّ واقعي مقبول يحظى بموافقة السوريين، ويمهّد الطريق أمام عملية ترميم نسيجهم المجتمعي الوطني، ولململة أجزاء بلدهم التي تتقاسمها اليوم جيوش الدول، وميليشياتها الوافدة منها والمحلية التي ربطت مصيرها بهذه الجهة أو تلك من الجهات الإقليمية والدولية.
ويبدو أنّ الموافقة التي أعلنها بشار الأسد على فتح معبرين بين تركيا والشمال السوري (باب السلامة والراعي ولمدة ثلاثة أشهر)، وهو في الأصل لا يسيطر عليهما، أمام المساعدات الدولية تأتي هي الأخرى في سياق جهود العلاقات العامة تلك بغية التخفيف من حدة الحصار الغربي القائم على سلطته، والتشدد الغربي في مسألة دعم جهود إعادة الإعمار، والانفتاح على السلطة المعنية، وكما هو معلن فإنّ الدول الغربية تطالب بعملية انتقال سياسية حقيقية قبل الشروع برفع العقوبات والتطيبع وتمويل مشاريع إعادة الإعمار أو السماح بها (اللاءات الأوروبية الثلاث). وقد أعلنت الولايات المتحدة أكثر من مرة عن عدم تشجيعها لعمليات التطبيع مع سلطة بشار خاصةً بعد اللقاء الثلاثي الذي تمّ في موسكو بين وزارء الدفاع ورؤساء المخابرات (روسيا، تركيا، سلطة بشار الأسد)، والاتصالات الهاتفية والزيارات بين بعض الدول العربية والسلطة المعنية.
كارثة الزلزال هي كارثة أخرى تُضاف إلى الكوارث التي يعاني منها السوريون منذ 12 عاماً. وهي الكوارث التي تسبّبت فيها السلطة، ولو لا تلك الكوارث لكان عدد الضحايا السوريين على جانبي الحدود السورية التركية اليوم هو أقل من دون شك.
فالزلزال الذي كان مركزه أصلاً جنوب تركيا، وأدّى إلى تدمير مدن بكاملها، وقضى على الكثير من الأرواح، وتسبّب في تهجير الملايين، هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم في غضون لحظات في الشوارع، بعد أن فقدوا أحبتهم ومساكنهم وممتلكاتهم طال الكثير من السوريين الذي أجبرتهم حرب بشار الأسد عليهم على مغادرة بلادهم، والتوجه نحو تركيا التي عاشوا فيها على مدى أكثر من عقد؛ وهم في معظمهم كانوا يسكنون، نتيجة ضعف إمكانياتهم المادية، في المناطق العشوائية المهمّشة، وهي المناطق التي تعرضت للأضرار أكثر من غيرها نتيجة هشاشة الأبنية التي كانوا يسكنونها. وهم اليوم يتعرّضون للمزيد من الضغوط والصعوبات المعيشية بفعل الظروف الصعبة التي تخيّم على تركيا نفسها إثر كارثة الزلزال. وما يزيد الوضع صعوبةً هو تفاقم النزعة العنصرية التي تستهدفهم، وهي نزعة تشجّعها بعض القوى السياسية بغية تحقيق مكاسب انتخابية مصلحية.
أما على الصعيد الكُردي، فقد كان للمساعدات الإسعافية العاجلة التي أوصلتها مؤسسة بارزاني الخيرية في الأيام الأولى إلى منطقة عفرين، وتوزيعها من دون أي تمييز الوقع الإيجابي لدى السوريين جميعاً؛ وهناك حملة تبرعات قام بها المجلس الوطني الكُردي؛ ولكن هناك في المقابل شكاوى كثيرة من عدم حصول المواطنين الكُرد من سكان منطقة عفرين، سواءً في عفرين المركز أو جنديرس أو المناطق الأخرى، على المساعدات نتيجة تدخل بعض عناصر وقيادات الفصائل المسلحة وتجّار الأزمات الذين غالباً ما يغطّون على فسادهم بشعارات واتهامات شعبوية تضليلية. وفي هذا السياق ذاته، هناك أخبار عن معاناة معيشية قاسية يتعرّض لها الساكنون في مخيم الشهباء، وهم من النازحين من منطقة عفرين. وكلّ ذلك يستوجب تدخل الجهات المانحة، والمنظمات التي تقوم بالتوزيع، لمعالجة الموقف لتصل المساعدات إلى سائر المحتاجين.
خلاصة القول: المعاناة السورية لم تبدأ بزلزال الطبيعة، ولن تنتهي بمعالجة آثاره. بل هي معاناة معقدة وصعبة بدأت نتيجة الحرب التي استهدفتها السلطة المنتفضين عليها، ومن ثم تدخّلت الدول والميليشيات بأسمائها وشعاراتها وتوجهاتها المختلفة، وكلّ ذلك يؤكّد أنّ هذه المعاناة لن تنتهي من دون الوصول إلى حلٍّ عام شامل، يطمئن سائر السوريين من دون أي تمييز، على قاعدة احترام الخصوصيات والاعتراف بالحقوق.