تركيا بين جليد سيبيريا وحرارة الشرق الأوسط
دوران ملكي
يُعتبر اللعب على المحاور الدولية في تركيا ثقافة قديمة يعود ذلك إلى موقعها الجغرافي المميز حيث استخدم مؤسس الجمهورية التركية كمال اتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى في رفض بنود اتفاقية سيفر والمتضمنة منح الكُرد والأرمن حكماً ذاتياً في تركيا الحديثة بإشراف عصبة الأمم المتحدة يوم ذاك مستغلاً الوضع العالمي الجديد وهو ظهور الاشتراكية وتشكيل اتحاد الجمهوريات السوفيتية حيث استطاع كمال أتاتورك أن يهدّد العالم الغربي الرأسمالي بالارتماء في أحضان الشوعية إن لم يتمّ تلبية مطالبه في تعديل الاتفاقية والحصول على مفصل لواء اسكندرون ليمنع اتصال الكُرد بالبحر الأبيض المتوسط فتسارعت الدول الغربية إلى إرضائه واستبدال الاتفاقية بمعاهدة لوزان والتي بموجبها تمّ حرمان الكُرد والأرمن من حقوقهم أسوةً بباقي الشعوب التي كانت خاضعة للأمبراطورية العثمانية والتي نالت حقوقها
يتكرّر المشهد ثانيةً والمضمون واحد لا يتغير وهو منع الكُرد من الحصول على حقوقهم ليس في تركيا فحسب وإنّما في الدول المجاورة ايضاً ذات التواجد الكُردي حتى يضمنوا (أمن تركيا)
عندما استعادت روسيا بعض مراكز القوة من إعادة الهيكلية الإقتصادية والدولة المركزية ودخولها معترك المصالح الدولية وثباتها أمام الضغوط الغربية والأمريكية حيال الأزمة الأوكرانية وكسبها للحرب في سوريا وتحولها إلى لاعبٍ مهمٍّ في الشرق الأوسط دفع بالقيادة التركية إلى مغازلتها من منطلق اللعب على أوتار المعادلات الدولية والضغط على الحلفاء الأطلسيين لجعل السياسات الشرق أوسطية تمرّ في غربال الأحلام العثمانية والتي يحاول الرئيس التركي استعادتها مستخدماً جميع الوسائل وخاصةً موجة الإسلام السياسي ومدّ جسور الخفاء مع التنظيمات الإسلامية المتطرّفة عبر دعمهم وتسهيل تنقلهم من وإلى أوربا عبر موجة الهجرة من سوريا والعراق مما ساعد في تعاظم الإرهاب وتأسيسه لدولة الخلافة وإستيلائه على مساحات شاسعة وبمحاذاة الحدود التركية مما سهل فتح قنوات التبادل التجاري السري
هذه التحركات كانت واضحة ويعرفها الجميع وظهرت في أكبر تجلياتها طرد تنظيم داعش من مناطق الشمال السوري في أيام معدودات ومقاومة لا تذكر من التنظيم ولم يكن من عادته وكذلك لم تسلم أية دولةٍ في الشرق الأوسط من خطر الإرهاب إلا تركيا والدول التي أسّسته وهذا يدلّ دلالة واضحة ومما لا يدع مجالاً للشك فيه من وجود جسور التفاهم بينهم
يقول المثل الكُردي(المرابض والمرابع هي نفسها ولكن الربيع ليس نفس الربيع)إذ تتجاهل القيادة التركية أنّ الارتماء في أحضان بوتين شيء والارتماء في أحضان لينين شيء آخر
انتشرت الشوعية في العالم بين الحربين العالميتن بسرعة البرق دون اي حساب من الغرب الرأسمالي مما أحدث هلعاً في الأوساط السياسية والاقتصادية العالمية مما استدعى التضحية في مواجهة الايديولوجيا الجديدة ومنها التدلل الأتاتوركي
قليلاً من التمحيص نجد أنّ توجهات القيادة التركية تختلف عن الأتاتوركية لا بل ندّان في الساحة السياسية التركية والدولية فكان أتاتورك لاعباً ماهراً ذو توجهات علمانية أثبت للغرب ندّيته للإسلام إذ قام بملاحقة رجال الدين الإسلامي وطردهم إلى خارج البلاد وغيّر شكل الدولة من مسلمةٍ تعتمد مبادىء الشريعة الإسلامية ووريث الخلافة إلى دولة علمانية وكأنّ الإسلام لم يمرّ منها إلا مرور الكرام
بينما الرئيس التركي حالمٌ في إعادة أركان الدولة العثمانية وإعادة تسمية أمرائها ويركب موجة الإسلام السياسي وداعماً لكلّ فكرٍ إسلاميٍ متطرّفٍ ومهدداً الغرب بهم ويبتزّ حلفاءه الأطلسيين بموجة اللاجئين التي تخبىء بين ثناياها الآلاف من المتطرّفين وكذلك المنظومة التي تقودها روسيا غير مؤهلة لإحداث التوازن مع الغرب المتمثل بالحلف الاطلسي والطاقةالاقتصادية الهائلة التي يمتلكها وهي غير مهيأة فكرياً وايديولوجياً كما كانت في فترة الاتحاد السوفيتي السابق
احتماء القيادة التركية بجليد سيبيريا لايقيها من حرارة الشرق الأوسط فقد انتهت رقصة الثعابين بين القيادتين الأمريكية والتركية بالقضاء على التنظيم في آخر جيوبه ومعلناً الموقف الأمريكي النهائي وهو رفض الرغبات التركية في اقتحام شرق الفرات عسكرياً لا بل مهدداً بهزاتٍ قويةٍ مالم تكن الآذان صاغية فالعالم الحر لن يترك أ ياً كان من الخروج من دائرته الطبيعية وتهديد الآخرين والتوسع على حساب الشعوب مهما كانت الأرضية الفكرية التي يعتمد عليها.
جميع المقالات المنشورة تُعبر عن رأي كتابها ولاتعبر بالضرورة عن رأي Yekiti Media