أولوية الطقس أم الأسطورة
وليد حاج عبد القادر/ دبي
في الفهم الجدلي وآلية العلاقة مابين الطقس والأسطورة ، وبصيغة هل هما في وحدةٍ عضوية من جهة وكأجزاء دينية أم عنصران أساسيّان في الممارسة الدينية ؟ ، ولكنّ دقة العلاقة بينهما لاتزال قضية بحثية ، ولعلّ خلاف الباحثين حول مسألة « نظرية الأسطورة والطقوس » والتي يعدّ من أكثر المتحمّسين في تبنيها هم ممَن يُسَمَّون بشعائريّي كامبريدج ، ومضمون النظرية يتلخّص في – أنّ الأسطورة لا تقوم بنفسها بل لا بدّ أن تقيَّد بشعيرة أو طقس ، مع أنّ هذه النظرية لاتزال محلّ خلافٍ ، نظراً لأنّ باحثين كثر لازالوا حتى اليوم يرون أنّ الأسطورة والطقوس تشتركان في نماذج معيّنة ، وإن لم يتطوّر أحدهما عن الآخر ، وقد أُطلِق اسم – مدرسة الأسطورة والطقوس – على مجموعةٍ من الكُتّاب الذين ركّزوا في أبحاثهم اللغوية على – الأهداف الشعائرية للأساطير – مثل – ويليام روبرتسن سميث وجيمس جورج فريزر وجين إلن هاريسون وسامويل هينري هوك – وبفرضيّة – أوّليّة الطقوس – التي تدّعي أنّ – كلّ أسطورةٍ مشتقّةٌ من شعيرة / طقس معيّن ، وأنّ القيمة النسقية للأسطورة إنما هي إعادة إنتاجٍ لتوارث فعل الطقوس ، وهنا يمكننا ذكر بعض الإيحاءات في الذهنية الأسطورية الكُردية، وذلك من خلال بعضٍ من شذراتٍ في أغنية – هري مالامن – فنلمح فيها كما سبق وذكرنا في مجالٍ آخر ( ده سري قرآني أليف وبي إقرأ باسم ، أو سري كلامي قديم سين وتينا البرودة والسخونة ، نيشاني باراني بأنه – الريح – ونيشاني مرني تانه – السخونة الزائدة كمؤشر للموت – ويلاحظ مدى دقة الربط الميثولوجي في ثقافة بلاد النهرين ، أما في السياق التاريخي والمساعي التي بٌذلت لدراسة التفكير الأسطوري ، فقد برزت جهود – فيكو وشيلنغ وشيلر ويونغ وفرويد ولوسيَن ليفي برول وليفي شتراوس وفري ، والمدرسة السوفييتية ، حيث أعدّ في ثلاثينيات القرن الماضي باحثون سوفييت ، أمثال جاكوف غلوسوفكر وفرانك كامنك وأولغا فريدنبيرغ وميخائيل باختين – دراسة الأسطورة والطقوس في الأدب الشعبي وفي النظرة الكونية للثقافة العامة ، وفيما بعد دعمت الدراسة السيميائية للأسطورة والطقوس -خصوصاً التي أجراها بيل ستانر وفيكتور تورنر – الارتباط بين الأسطورة والطقوس. مع ذلك، فإنها لم تدعم فكرة أنّ أحدهما تطوّر أو نتج عن الآخر ، على هدي ما قد يدّعي أصحاب فرضيّة أوّليّة الطقوس . أمّا ما يراه المجتمع العلمي ، فهو أنّ العلاقة بين الأسطورة والطقوس إنما هي اشتراكهما في نماذج عامّة . وهذا لايمنع وجود احتمالٍ آخر فيقول: ربّما نجمت الطقوس عن الأسطورة ، تحيي كثير من الشعائر الدينية – كفصح اليهود ، وعيد الميلاد والفصح عند المسيحيين ، والحج عند المسلمين – لابل وعيد نوروز بمفهومه الطقسي ، وهنا وبعيداً عن جو الأديان التاريخيّة ، ترى فرضية أوّليّة العلاقة بين الأسطورة والطقوس هي كما العلاقة بين العلم والتقنيّة . ومن روّاد هذا الرأي الأنثروبولوجيّ الرائد إدوارد بورنت تايلور ، حيث رأى أنّ الأسطورة محاولة لشرح العالم ، وهي تعني عنده «علمٌ بدائيّ». ثمّ تأتي الطقوس ثانياً ، كما تأتي التقنيّة تطبيقاً للعلوم ، وكذلك تأتي الطقوس تطبيقاً للأسطورة ، وهي هنا محاولة لإنتاج بعض الآثار ، بناءً على الطبيعة المفترَضة للعالم، حيث أنّ الأسطورة عند تايلور – تهدف إلى شرح العالم على أنه نهاية في نفسه . أمّا الطقوس فتستخدم هذا الشرح للتحكّم بالعالم – . فالطقوس تفترض دائماً وجود أسطورة سابقة ، وباختصار: تطلع الشعائر من الأساطير .
خلافاً للفكرة البديهية أنّ الطقوس تطبّق النظرية الأسطورية، دعم كثير من أنثروبولوجيي القرن التاسع عشر الرأي المخالف : أنّ الأسطورة والعقيدة الدينية تنتجان عن الطقوس. يُعرَف هذا بفرضيّة – أوّليّة الطقوس – وأكّد هذا الرأي أوّل مرّة الباحث الكتابيّ ( نسبة إلى الكتاب المقدّس ) ويليام روبرتسن سميث ، وقد ( لاحظ الباحث ملِتنسكي أنّ سميث قدّم المصطلح دوغمائيًاً ) ، وضع سميث في محاضراته عن « دين الساميّين » خطًاً فاصلاً بين الدين القديم والحديث : ( أمّا في الدين الحديث فالعقيدة مركزيّة ، وأمّا في القديم فالطقوس هي المركزيّة . بالعموم فإنّ القدماء – حسب سميث – نزعوا إلى المحافظة على الشعائر ونقلها إلى أبنائهم بإخلاص . وعلى نقيض ذلك فإنّ الأساطير التي تعلّل هذه الشعائر قد تتغيّّر. وفي الحقيقة – حسب سميث – فإنّ كثيراً من الأساطير أتت إلينا من – السبب غير الأسطوري إذ قد نُسِيَت الطقوس بطريقةٍ ما – وكمثالٍ يقدّم سميث مثالاً على ذلك عبادة أدونيس . تفجّع العُبّاد على موت أدونيس الأسطوريّ في شعيرةٍ توافق الذبول السنوي للغطاء النباتي. وفقاً لسميث فإنّ شعيرة التفجّع هذه لها تفسير غير أسطوري : مع ذبول النباتات ( يحزن العُبّاد من تعاطفهم الطبيعيّ ، كما يصيب الإنسانَ الحديث مسٌّ من الكآبة مع سقوط أوراق الخريف وما إن نسي العٌبّاد السبب الأصلي غير الأسطوري لشعيرة التفجّع ، حتى « أنشؤوا أسطورة أدونيس إله النبات الميّت المنبعث ليشرحوا الطقوس » . وقد وضع ستينلي إيدغار هيمان في مقالته ( النظرة الشعائريّة للأسطورة والأسطوريّ ) حجّة تشبه حجّة سميث ، وهنا يجادل هيمان ضد القراءة التفسيرية للأسطورة، وهي القراءة التي تقول إنّ الأساطير تتأصّل في محاولات شرح أصول الظواهر الطبيعية وأسبابها. إذا صحّت هذه القراءة التفسيريّة ، فإنها تجعل الأسطورة أقدم من الطقوس أو مستقلة عنها ، وهو ما يقول به إدوارد بورنت تايلور . لكنّ هيمان يقول إنّ الناس إنما يستعملون الأسطورة لأسباب تفسيريّة بعد أن تستقرّ ، أي باختصار : لا تنشأ الأساطير لتكون شروحاً للظواهر الطبيعية. بل تنشأ الأسطورة في رأي هيمان من أداء الشعائر. من ثَمّ فإنّ الطقوس تأتي قبل الأسطورة، وتعتمد عليها الأسطورة في وجودها حتّى تجمع مكانةً مستقلّة بوصفها قصّة تفسيريّة . )
اما الأنثروبولوجي الشهير السير جيمس جورج فريزر فله رأي آخر ، حيث يرى بأنّ الأسطورة تنشأ عن الطقوس ، من خلال العملية الطبيعية للتطوّر الدينيّ . وتأثّرت معظم أفكاره بأفكار روبرتسن سميث حيث حاججَ فريزر في كتابه «الغصن الذهبي »، أنّ الإنسان تطوّر من الإيمان بالسحر – والشعائرُ مبنيّة على السحر – إلى الإيمان بالدين ثم إلى العلم. وكانت حجّته كما يلي :
( .. بدأ الإنسان بإيمان انعكاسيّ بالقانون الطبيعي . واعتقد أنّ في مقدوره التأثير في الطبيعة بتطبيق هذا القانون على الوجه الصحيح . – في السحر يعتمد الإنسان على قوّته ليواجه الصعوبات والمخاطر التي تهاجمه من كلّ حدبٍ وصوب . فيؤمن بنظام مؤسَّس للطبيعة يمكن أن يعتمد عليه يقيناً، ويمكن أن يغيّره ليجعله كما يريد ) .
وقد كان للتفكير الخيالي عند الإنسان ، وكذلك عن الطبيعة والسحر والأهم التفكير الخاطئ عن ذلك ، حيث تجاهل الإنسان قانون النظام الطبيعي المعروف، و ( .. رمى نفسه بإخباتٍ تحت رحمة كائنات عظيمة محتجبة خلف حجاب الطبيعة، يُرجِع إليها كلّ هذه القوى البعيدة المدى التي كان قبل ذلك ينسبها لنفسه .. ) . أي بمعنى : عندما فقدَ الإنسان إيمانه بالسحر ، علّل شعائره السحرية السابقة بقول أنها تمثّل أساطير أو تمجّد كائنات أسطوريّة … ) وحسب فريزر : أمّا الأسطورة فتتغيّر ، وأمّا الطقوس فتبقى ثابتة ، إذ يفعل الناس ما كان آباؤهم يفعلون ، وإن كانت أسباب آبائهم قد نُسِيَت منذ زمن . إن تاريخ الدين محاولةٌ طويلة لتوفيق شعيرة قديمة وسبب حديث ، لإيجاد نظريّة معقولة لممارسةٍ غير معقولة .
اما جين إلِن هاريسون وسامويل هينري جين إلن هاريسون فقد رأيا بأنّ العلاقة بين الأسطورة والطقوس هي علاقة حميمة . ولكنهما « خلافًا لسميث »، «يرفضان بشدّة» أنّ هدف الأسطورة الرئيس هو تعليل شعيرة بإعطائها روايةً تروي كيف بدأت ( .. كتعليل تفجّع عُبّاد أدونيس بنسبته إلى موت أدونيس الأسطوري ). بل يعتقدان أنّ الأسطورة ما هي إلا وصف روائي لشعيرة موافقة ، ففي رأي هاريسون فإنّ «المعنى الأوّل للأسطورة… هو النظير المنطوق للشعيرة المؤدَّاة ».
( .. أعطى هاريسون وهوك تفسيراً لشعور القدماء بالحاجة إلى وصف شعائرهم في صيغة روائية. فاقترحا أنّ الكلمة المنطوقة كالطقوس المؤدَّاة، كان يُعتَقَد أنّ لها قوّة سحريّة: «إنّ للكلمة المنطوقة قوّةً كقوّة الفعل .. ) .
أما هاريسون فقد اعتقدت كفريزر ( … أنّ الأساطير قد تنشأ بوصفها سبباً أوّليًاً لشعائر منسيّة أو مفسَدة. وأعطت مثالاً على هذه الشعائر التي ترتكز على التجدد السنويّ للنباتات .. هذه الشعائر تتضمّن مشارِكاً يذهب في موتٍ مرحليّ ثم يقوم .. ) ، قالت هاريسون إنّ الطقوس وإن كانت سنويّة ، ولكنها مقدِّمة ، أي إنها تقدّم الأفراد إلى أدوارهم بوصفهم أعضاء قائمين بأنفسهم في المجتمع. لم يكن حينئذٍ «الإله» إلّا «إسقاطاً للغبطة التي تنشئها الطقوس». ثمّ جُعِلتْ تلك الغبطة إلهاً مفارِقاً، وأصبح الإله بعد ذلك إله النبات، إذ ( كما أنّ المُبتدئين يموتون رمزيًاً ثمّ يقومون أعضاءً كاملين في المجتمع ، كذلك إله النبات وكذلك المحاصيل تموت وتنبعث ». مع الوقت، ينسى الناس الوظيفة الابتدائية للشعيرة، ولا يذكرونها إلا على أنها إحياء).
– ملاحظة : غالبية أفكار النص مأخوذة وبتصرف من يوكبيديا .
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد 296