آراء

قراءة في مظالم الكُرد في العقود الاخيرة

د. محمد حبش

بعيداً عن الراهن السياسي وما نشهده من قيام العصر الكُردي …. فإنّ من الواجب أن نقول إنّ سايكس_بيكو الذي نظّم المنطقة لمائة سنةٍ مريرةٍ ظلم كثيرين، ولكنّ أشد مظالمه كانت ضدّ الكُرد الذين لم يُذكروا في العير ولا في النفير، ولم يجدوا فصلاً يُدرجون فيه في هذه الاتفاقية التعيسة، وكان حظّهم من أرضهم التي قاتلوا عليها في الجاهلية وعشقوها في الإسلام هو حظّ الهنود الحمر في أمريكا الحديثة، حيث لم يجد الانسان المتحضّر سبباً لتكريم هؤلاء الآباء المدهشين الذين عاشوا خلال التاريخ يحافظون على لغتهم وثقافتهم وأديانهم وشعورهم المنسدلة الا أن يدرسهم مع الفصائل المنقرضة، ولنتذكّر أنّ الثورة الأمريكية انعمت عليهم بالإبادة المتوحّشة، وفي كاليفورنيا ظلّ القانون إلى عام 1865 يمنح مكافأة مجزية لكلّ مَنْ يأتي بفروة رأس رجلٍ من الهنود الحمر، وقد اعتبروا ذلك دليلاً على وطنيته وحبّه لأمريكا ووحدتها وسيادتها الوطنية……
الكُرد هم جزءٌ من نسيج هذه الأرض هم الميديون العماليق الأوائل، تقرؤهم في الحب في مم وزين، وتقرؤهم في البطولة في كاوا الحداد، وتقرؤهم في العشق في فرهاد، وتقرؤهم في القرآن في وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، كرمانجو ولور وكوران وكلهود، وتقرؤهم في الشموخ والتنوير الديني في معشوق_الخزنوي.
ليست هذه مقامة حريرية للتغزّل بالكُردي مع أنّ ذلك عمل محمود، ولكنني أكتب من أفق الخبرة والتجربة للعيش المشترك الذي مارسناه في #سوريا وحاولناه.
لقد تعاملت مع المسألة الكُردية منذ دخولي في العمل العام، وكنا نتحدّث عن تاريخ الكُرد المجيد، وحين كنا نسأل عن مكان الكُرد في المجتمع السوري كنا نقدّم سلسلةً من الأسماء الجاهزة التي تؤكّد نجاح الأكراد في الحياة العامة في سوريا ابراهيم هنانو وحسني الزعيم وأحمد كفتارو وخالد بكداش والشيخ البوطي، والقائمة تطول، وقد كمل القائمة فناننا المحبوب همام الحوت وهو يكشف الروح البريئة الصافية للكُردي البسيط وهو يقول مارادونا كُردي والأرجنتين بناها جدي حسو الذي كان يأتيهم بتين عفرين ويقولون: أجا التين من عفرين اجا التين من عفرين حتى صار اسمها ارجنتين، وحتى آدم نفسه فهو كُردي جاء من كفر جنة!
ولكن هذا الغزل العاطفي لا يجيب عن أسئلة القوم المحزنة، فالمجتمع الكُردي في أرضه مهجّر ونازح، وهناك مشروع بعثي وطني قومي يعرفه جيداً كل الكُرد أطلقه البعث العربي أيام محمد طلب هلال رئيس المخابرات في #القامشلي منذ 1963 يقضي بتهجير شعبٍ كُرديٍ كاملٍ من أرضه في الشمال السوري على الطريقة الستالينية، وبالتالي تهجير شعبٍ عربيٍ آخر من أرضه في الغمر لزرعه حاجزاً عربياً بين #سوريا و #تركيا، ومع ما يعنيه ذلك من تشريد ونزع ملكيات وخلق عداوات، وكانت هذه المظالم تُرتكَب ببطشٍ من حديد، يُظلم به العرب والكُرد جميعاً من أجل رسم خريطةٍ مريحةٍ أمام القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، تعزّز رؤيتهم القومية للحدود الشمالية للوطن العربي.
حين خدمتُ في مجلس الشعب، وبحكم وجود الشيخ معشوق معنا في مركز الدراسات كان أكثر زوّاري من الكُرد وكانوا يشرحون معاناة 300 ألف كُرديٍ وجدوا أنفسهم بدون جواز سفر وبدون وثائق وطنية، ومعنى ذلك أنهم بدون هوية ولا يستطيعون أن يعلّموا أولادهم الكتابة والقراءة، ولا يستطيعون أن يصلوا إلى أيّ وظيفةٍ في الدولة السورية..
كانت هذه المطالبة المحقّة تدفعني لمناقشة الأمر دوما مع مسؤولين في الدولة ورفعت أكثر من مذكّرةٍ للرئيس نفسه بهذا الشأن، لم أكن أعتقد أنّ تحقيق طلبٍ كهذا يجوز تأخيره يوماً واحداً، كيف أطالب إنساناً بأن يكون وطنياً وهو لا يملك هوية وطنية؟!
لم يكن هؤلاء الكُرد في نظر السلطة السورية غير أتراك ملغومين يجب إعادتهم إلى تركيا، ومع أنه لا حول لهم ولا قوة ولو استطاعوا الرحيل إلى الهفا لرحلوا، ولكنهم أصلاً لا يملكون جواز سفر، ومع ذلك فقد ظلّ الظلم يشتدّ على الناس كلّ يومٍ ولم يصدر هذا المرسوم.
بعد محاولاتٍ كثيرةٍ تلقّيت اتصالاً من مكتب رئيس الجمهورية نفسه أنّ الرئيس وافق وأنّ المرسوم الذي ساهمتهم بإعداده قيد التوقيع وسيرفع الظلم عن الأكراد ويعيدهم إلى أحضان الوطن وسيمنحهم الجنسية والتعويض عن ما لحق بهم من ضررٍ …..
هكذا خرجنا على وسائل الإعلام نبشّر الكُرد بأنه جاء فرج الله والفتح…. ولكنّ الوعد لم يتحقّق منه شيء، ومع أنّ بخيتان وهو الأمين المساعد للقيادة القطرية أعلن الأمر بنفسه أمام الإعلام في مؤتمر الجامعة ولكن لم يتحقّق شيء…
اللواء محمد منصورة قال لي عام 2004 بعد أحداث القامشلي “هذا الرئيس ما بيشتغل بليِّ الدراع… يعني تلووا له دراعه وبدكم مرسوم جنسية ؟ صدّقني المرسوم كان جاهزاً للتوقيع بس الحق عليهم!!!… غير ممكن…”.
قلت له يا سيادة اللواء حيرتونا!!… لا تريدون ضغطاً خارجياً ولا تقبلون الضغط الداخلي…. فما هو المطلوب؟؟؟ المطلوب إذن هو السكوت والصمت والشكر على نعمة القيادة الحكيمة وحين يصمت الجميع ونرمي الإبرة ونسمع صوتها سوف يصدر لكم الرئيس المكرمة بالمرسوم الموعود!!!
قلت للواء منصورة يا عزيزي… ليس عاراً على أيّ حاكمٍ أن يخضع لشعبه… وليس ضعفاً فيه أن يلتفت لمطالب الشعب هتافاً أو عرائض أو حتى عصياناً وتمرداً… إنه شعبك وهي حقوقه… لقد قالوا لعنترة أقبل دافع عن القبيلة … قال أنا عبد والعبد لا يحسن الكرّ والفرّ… وحين قالوا له كرّ وأنت حرْ… عرف التاريخ من هو عنترة بن شداد!!!
ومع بداية الثورة واشتغال الجدّ في البلد استجاب النظام من بداية الثورة للطلب الكُردي المؤجّل منذ أربعين عاماً بحقّهم في الحصول على الهوية السورية… وتمّ ذلك بأسابيع قليلة.
لا يوجد أحد يستطيع أن يقنع الكُردي بالاستمرار في النظام البائد الذي كان يحرم عليه لغته وثقافته وعيده، ولم يأذن بمدرسةٍ كُرديةٍ أو مجلةٍ كُرديةٍ واحدةٍ في طول البلاد وعرضها، ولم يؤمن بأن هناك شعباً كاملاً في سوريا له حقوقه وعليه واجباته وهو شعب ينبض بالحياة له تاريخه وأبطاله وأمجاده ورجاله، وهو مصرٌّ أن يتحدّث بالكُردية وأن يناجي خوداي وأن يغنّي في نيروز مع البحتري:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحُسن حتى كاد ان يتكلما
وقد نبَـه النوروز في غلس الدُجى أوائل ورد كـُن بالأمس نوَما
لقد كان خطاب البعث التقليدي بأنّ الفرصة متاحة للكُردي (الذي يملك الهوية طبعاً) للعمل في الدولة، ولدينا ذاكرة واسعة في عدة رؤساء وزارات ووزراء ومفتين وشيوعيين من الكُرد، تسلّموا مناصب مهمة وعاشوا وعوائلهم بسلام.
ولكنّ ذلك لا يقنع في شيء ذلك الكُردي الذي تمسك بأرضه في الجزيرة، يريد أن يعيش فيها وعانى من تسلّطٍ شوفينيٍ صارمٍ مارسته أجهزة المخابرات المتخصّصة التي اعتبرت الأكراد غرباء في أرضهم ، واعتبرتهم رصيداً للامبريالية لتنفيذ طموح مضاد للمشروع العربي القومي، ولأجل ذلك فقد قام الجهاز الأمني الباطش يمنع عليه لسانه ولغته ثقافته وقوميته، وكانت المخابرات تعتبر لغته ونسبه ونيروزه عدواناً على القومية العربية، وكانت سجون النظام تضمّ مئات من المدانين بالاحتفال بالنيروز أو الذين يصدرون نشرات باللغة الكُردية بوصفهم عملاء للإمبريالية العالمية.
ليس في هذا الكلام أدنى مبالغةٍ بل هو نصّ مقرّرات القيادة القطرية السورية في المؤتمر القطري لعام 1966 الذي نصّ صراحةً على وجوب إحداث تغييرٍ ديمغرافيٍ واضحٍ في الجزيرة لإجبار الكُرد على العودة إلى تركيا وايران بوصفهم غرباء عن هذه الأرض ، أو الانخراط في المشروع القومي العربي والكفر بكلّ ثقافةٍ كُرديةٍ.
كانت معاناة الكُرد في مناطقهم كبيرةً ومريرةً وكانوا بين خيارين طمس هويتهم ومنع أيّ نشاطٍ سياسيٍ لهم أو الذهاب إلى السجون المظلمة، وبنتيجة ذلك فقد تراجع التعليم تراجعاً خطيراً خاصةً بين اولئك البدون المحرومين من الهوية السورية، وكانت النتيجة التي تابعناها في العقود الأخيرة أنّ جيلاً كاملاً من الكُرد أصبح بشكلٍ طبيعيٍ نواطير في المزارع وكراسين في المطاعم وكانوا يتلقّون أجوراً أقلّ من سواهم، لأنهم يعملون خلاف القانون، بلا هوية ولا تصريح عمل، وقد قتلت فيهم المحنة كلّ طموحٍ وتحوّلوا إلى عيارين يكافحون من أجل لقمة العيش…
يتحرّك المارد الكُردي اليوم على وقع الفارس الأسطوري كاوا الحداد وجراح فرهاد وعزف نيروز، وهو يتوق إلى الحرية، حرية لا تناقض حقّ الشعوب في استقرارها وكرامتها ولكنها تكفي لمنع قيام ظلمٍ جديدٍ صبروا عليه مائة عامٍ لم يجنوا فيها غير حصاد الخيبة والإمعان في الإذلال.
ولا أشكّ أنه لو كان في سوريا دولة ديمقراطية و مواطنة حقيقية و ليس لديها مشروع قومي عنصري لأمكن أن تتحوّل كلّ مطالب الكُرد ببساطةٍ إلى وزارة الثقافة وأن تُعالج بالكامل هناك حيث لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالعمل الصالح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى