«كرسي» نوجين السورية
عبده وازن
لم تكن الفتاة السورية الكردية نوجين مصطفى تتصور أنها ستصبح «نجمة» النازحين الذين عبروا آلاف الكيلومترات هرباً من الجحيم السوري نحو المنفى الشاسع. هذه الفتاة المقعدة على كرسيّها المتحرك، كانت في الخامسة عشرة عندما لفتت الصحافة الغربية واستوقفت الصحافيين بذكائها الخارق ونباهتها وإجادتها الإنكليزية التي بها تحدثت عن معاناتها كسورية وكردية، في ظل الديكتاتورية البعثية والأصولية «الداعشية» في آن واحد. أما قضية هذه الفتاة التي عبرت على كرسيّها المتحرك بلداناً عدة لتصل الى ألمانيا، فلم تتبلور إلا عبر اللقاء الذي تمّ بينها وبين الكاتبة الإنكليزية كريستيان لامب وكانت خلاصته كتاباً بديعاً عنوانه «نوجين الرحلة البحرية الرهيبة» وقد صدر بالإنكليزية عن دار «هاربر كولينز» وترجم للفور الى لغات عدة بينها الفرنسية.
وإذا كانت كريستيان لامب سباقة في تقديم الفتاة الأفغانية ملالا في الكتاب الشهير الذي وضعته عنها والذي غزا مكتبات العالم، فهي في كتاب «نوجين…» تقدم شخصية الفتاة السورية المقعدة، وتدوّن شهادتها الحية وسردها المسهب لتفاصيل المأساة السورية في الداخل والمنفى.
ليست نوجين كاتبة ولا معلقة سياسية، لكنها على صغر سنها، خارقة الذكاء، مرهفة، تلاحظ وتراقب وتشهد ببداهة، ساخرة حيناً سخرية من اختبر الألم والشقاء، وناقدة حيناً النظام و «داعش» والغرب بشدة وحرية، ساردة ببراءة ما جرى حولها وما عاشته هي وأسرتها وأبناء بلدتها والنازحون الذين كانت بينهم في رحلتهم الطويلة والمضنية الى بلدان اللجوء. وبدت هذه الفتاة على وعي عميق بما حدث ويحدث في سورية، مدركة معاني الإرهاب والاقتلاع والمنفى والاستلاب… وفي قراءتي لكتاب «نوجين…» في ترجمته الفرنسية أدركت أن الكاتبة البريطانية كانت أمينة على أحاديث نوجين وعلى نظرتها الى المأساة السورية وعلى أفكارها التي تنم عن نضج وبداهة سياسية. فهي حافظت على العفوية والبساطة في صوغ شهادة نوجين.
تكره نوجين كثيراً كلمة «ريفوجي» أي «لاجئ» بالإنكليزية وفي الألمانية تعدها قاسية جداً، وتقول: «هذه الكلمة بالحقيقة تقصد مواطناً من الدرجة الثانية، مع رقم مكتوب على اليد أو مطبوع على سوار، والجميع يتمنون أن يختفي هذا الرقم». وتعترف بأن اللاجئين ليسوا أرقاماً في جداول الإحصاء «نحن كائنات بشرية ولنا تاريخ». اللاجئون بشر لطفاء و «عندما يروون قصصهم يضحكون كثيراً». وتتذكر ما كان يقول لها والدها الذي يؤمن بأن الأكراد سيكون لهم وطن ذات يوم :»من لا تاريخ له، لا مستقبل له». وعندما تتكلم عن التاريخ تقول: «يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون، لكنّ هناك أمراً لا أفهمه: لماذا نحن دوماً معجبون بالأشرار؟ وعلى رغم أن هؤلاء يقومون بأعمال رهيبة، نتكلم عنهم وكأنهم قادة عسكريون لامعون وكاريسميون». ويبدو وعيها لهذه المسألة الشائكة حاداً، فهي تضيف: «قتل ستالين ستة ملايين شخص في معتقلات الغولاغ وخلال حروب التطهير. هتلر كان أشد دموية: أحد عشر مليون قتيل وسبعة عشر مليون لاجئ. أستطيع أن أتحدث عن ستالين وهتلر ولكن ليس عن أي ضحية من ضحاياهما. هل سيكون الأمر نفسه مع الأسد بعد خمسين عاماً؟ لا شك. الناس سيعرفون كل شيء عنه ولكن ليس عن الضحايا الأبرياء. نحن جميعاً لن نكون سوى أرقام، أما الطاغية فسيدخل التاريخ. ما أرهب هذه الفكرة».
وتتحدث عن البيت «الذي لا يتركه أحد بلا سبب»، وعن الوطن الذي «ليس فندقاً نستطيع هجره عندما تصبح الخدمة سيئة». وتسترجع ذكريات بعضها جميل وبعضها أليم: «كنت أحب كثيراً أن أتمدد على ظهري وأتأمل النجوم البعيدة جداً التي تنتشر في الماوراء مثل درب مشع. في تلك اللحظة، حلمت للمرة الأولى بأنني أهوى الفلك. في الفضاء نتطاير والسيقان لا ضرورة لها». وفي منفاها الألماني في أحد مخيمات مدينة دورتموند تستعيد صورة بائع السحلب وروائح ماء الورد والكمون… ثم تتذكر الفتاة الكردية الجميلة التي اختطفها مقاتلو «داعش» من بيتها وقتلوا شقيقها الصغير عندما اعترضهم. ولم يخطفوها إلا نزولاً عند رغبة أميرهم في الزواج منها. ولما أعادوها الى منزل أهلها لتقضي بضعة أيام عندهم سألتها أمها عن زواجها، فقالت لها باكية: «لي عشرة أزواج، كل ليلة رجل». وتتذكر كيف أن مأتماً في البلدة استحال خمسة مآتم بعدما قصفت مدفعية النظام المشيعين قصداً. وفي مقطع بديع، تخاطب أبو بكر البغدادي الذي سمى الخليفة في أحد المساجد، داعية إياه الى خلع ساعة الرولكس من معصمه قبل العودة الى الوراء ألافاً من الأعوام.
قد تكمن فرادة كتاب «نوجين…» في كونه شهادة حية وعفوية، عميقة وحقيقية، أليمة وجارحة، أدلت بها أو سردتها الفتاة الخارقة الذكاء والنبيهة الى الكاتبة البريطانية لتدونها بأمانة تامة. نوجين المقعدة ليست بمقعدة بتاتاً ما دامت تملك قدرة رهيبة على الملاحظة والمراقبة والاستخلاص وعلى تجواب مآسي شعبها السوري والكردي. لكنها لم تخف ألمها إزاء مرضها، فهي بعد انتهاء جولة النزوح الطويلة تشعر بحزن لأنها ستعود «تلك الفتاة التي تحيا في غرفتها» والتي تحتاج دوماً الى من يرافقها.
الحياة