نجاح النضال المدني في عفرين يضعها على طريق استعادة عافيتها
زهير علي
في إحصاء عام 2004 بلغ عدد سكان منطقة عفرين أكثر من 525 ألف نسمة، و هذا التعداد كان يزيد حينها عن تعداد سكان بعض المحافظات السورية. إلا أنّ ماورد في البيانات الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء حدّد أنّ التعداد السكاني لمنطقة عفرين يبلغ 172 ألف نسمة. بالتدقيق بالجداول الإحصائية للمكتب المركزي للإحصاء لا نجد خطأ، وإنما نكتشف تخفيضاً مدروساً للرقم الإحصائي الحقيقي لمنطقة عفرين ، والرقم الحقيقي الذي تمّ ذكره يمكن استخلاصه من نفس المجموعة الإحصائية، لأنّ الغباء الشوفيني يمكن كشفه. و وفقاً لنسبة الزيادة السكانية الوسطية في سوريا عموماً منذ 2004 ولنهاية 2018 ومن واقع عدد السكان في السجل المدني لعموم سوريا يكون عدد سكان منطقة عفرين وفقاً لوسطي الزيادة السكانية في سوريا نستطيع أن نستنتج أنّ عدد سكان منطقة عفرين في نهاية عام 2018 بلغ أكثر من 825 ألف نسمة.
هذه الكتلة السكانية لمنطقة عفرين يبدو كانت ترعب الشوفينيين والعنصريين، وهي بأكثر من 95٪ منها من القومية الكُردية، ومجتمع أصيل يمتدّ في عمق التاريخ إلى حضارات الهوريين – الميتانيين والحثيين ومايزال موروثهما اللغوي والمجتمعي الثقافي والحضاري معاشاً بين أبنائها.
مجتمع منطقة عفرين منذ نشأة الدولة السورية اتصف بالحضور القوي له على كلّ الصعد الوطنية منها وكذلك في الدور الهام الاقتصادي و التقدم الاجتماعي و التعليمي والثقافي .. إن كان ضمن محافظة حلب خصوصاً أو في سوريا عموماً، و يستند في كلّ هذا على تأصّلٍ في القيم والثقافة المدنية فيه كحالة ملفتة له في محيطٍ ماتزال مجتمعاته تعاني من ضعف و تحديات في تقدم قيم وثقافة المجتمع المدني فيها، فعفرين معروفة بتحطم الذهنيات العشائرية والطائفية والعنصرية فيها وأعتقد هذا ما كان يرعب أتباع تلك الذهنيات من مجتمع عفرين.
من هذه المعطيات المجتمعية ومن الوقائع التي جرت يمكن التأكيد أنّ أكثر من طرفٍ كان له مصلحة في تدمير هذا المجتمع، وحتى العمل على اقتلاعه من أرضه و تمّ التخطيط لذلك وتمّ تنفيذه، وعلى أرض الواقع نجد أنّ الاقتلاع وتحطيم المجتمع العفريني تمّ بأقل خسائر مادية ألحقت به( يعني لم تحدث عمليات تدميرٍ للمدن والبلدات والقرى مثلما حدث لغيرها في جغرافيات أخرى في سوريا خلال الحرب بل حدث الاقتلاع بأقل ما يمكن من خسأئر مادية ) وهذا يؤشّر أيضاً أنه كان يتمّ تنفيذ مخططٍ لهندسة إسكانية جديدة لمنطقة عفرين. ولا نعرف إن كانت مقايضة تامة دائمة قد جرت كما تمّ التخلي عن لواء إسكندرون قبلها ، لأنّ نوعية سكانه وقتها من العلويين والمسيحيين والكُرد وقتها لم تكن تناسب البعض الشوفيني العنصري، والأن عفرين المدينة الكُردية التي كانت بنظرهم تضغط عليهم لاتناسب ايضاً شوفينيي وعنصريي اليوم.
كارثة عفرين آذار 2018 أدخلت على الأرض و لحياة العفرنيين مفهوم النضال المدني كشكلٍ نضالي مجتمعي يتبنّى مشترك المرحلة الجامع لكلّ الشرائح الاجتماعية ويعمل على إنجازه ويعتمد في ذلك على نشطاء مدنيين يمتلكون الكفاءة والإقدام.
خلال السنوات السابقة وخاصةً بعد 2011 ظهرت منظمات مدنية تستلهم عملها من القيم والثقافة المدنية، تعمل في مجالات التوثيق و الدفاع عن حقوق الإنسان والإغاثة… الخ ولكنها لم تتحوّل لخوض النضال المدني المؤطّر للمجتمع على مشتركات المرحلة ..
في حالة عفرين ونظراً لانكفاء الحالة الحزبية السياسية بشكلٍ كامل عنها وهي تتحمّل المسؤولية عن ذلك، كان النضال المدني هو الشكل الوحيد المتاح حيث كانت الحالة الحزبية عدا أنها تسبّبت بالكارثة نتيجة عدم اتباعها المنهجية العلمية في التشخيص والاستنتاج أيضاً فقدت أيّ فعالية إيجابية لها بعد الكارثة، ومازال الوضع كذلك إلى الآن ، وأعتقد سيبقى كذلك لمرحلةٍ ليست قصيرة.
هذا الشكل النضالي المجتمعي المدني بدايةً لم يكن مفهومه واضحاً، ولم تكن آلياته وأدواته أيضاً واضحةً، وخاصةً أنّ تجربة الحركة القومية الكُردية لم تؤسّس لهكذا نضال لا نظرياً ولا عملياً خلال العقود الماضية من عمرها. بالمختصر كما عفرين علّمتنا الكثير بدءً من تأسيس بارتي ديمقراطي كُردستان – سوريا . علّمتنا النضال المدني من أجلها أيضاً.. منذ الأيام الأولى لم يكن أمامنا إلا هذا الشكل حتى نتمكّن به من الاستدارة على الكارثة التي تعرّض لها مجتمع عفرين وبالأحرى تمّ دفعنا إليها .. و بنفس الوقت الذي كان يتقدّم ويستقطب كفاءات شعبنا كان يتعرّض مفهومه وآليته لتشويهٍ، ويحاول البعض أخذه لمواقع واستخدام آلياتٍ ليست له وبالتالي إفشاله، و أيضاً في هذا السياق كان يتمّ دفع البعض الحزبي السياسي المؤدلج من مجتمع عفرين لمناهضة العمل المدني ومهاجمة العاملين والناشطين فيه وحتى النيل من شخوصهم واتهامهم إتهامات شتى. أو اتخاذ إسلوب آخر هو العمل لاحتوائه عبر العمل بالاسم المدني و بالشعارات الحزبية السياسية. في الوقت الذي هم يقرّون بفشلهم في تلك المهام و أصلاً الحالة من عقود هي من فشل لفشل في تحقيق المشاريع والبرامج الحزبية بسبب غياب المنهج العلمي في التشخيص والتحليل والاستنتاج و تبنّي البرامج المناسبة للمرحلة.
النضال المدني اليوم يحتاج لجهودٍ إعلامية أكثر لبيانه وتوضيحه، و أنه ليس بالتضاد مع النضال الحزبي السياسي ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا تلبّس الحزبي لبوساً مدنياً ووقتها لا يعود نضالاً مدنياً . هذه الجهود تستوجب أيضاً أن يشارك بها اكبر مايمكن من الكفاءات المجتمعية المدنية، لأنه للأسف في هذه المرحلة تراجعنا من النضال من أجل تثبيت حقوقنا في الدولة السورية إلى النضال من أجل بقاء وجودنا في الدولة السورية.
بدون أدنى شك أنّ النضال الحزبي السياسي والمؤدلج منه بشكلٍ خاص أدّى لشروخ مجتمعية بين الكُرد في سوريا، وذلك لعدم التوافق المجتمعي على تلك البرامج الحزبية السياسية، وخلق حالات استقطاب حادة وصلت لحدّ الإنضاج لبيئة الاقتتال الداخلي. وهذا أدّى لنضوج بيئة وقوع الكارثة مع حالة الشلل على كلّ الصعد لتلافيها من الجميع. علماً أنّ مشتركات المرحلة الجامعة كانت متوفرة وهي دائماً متوفرة، ولكن كان يقفز من فوقها لتنفيذ الأجندات الحزبية السياسية وبالأسلوب الإملائي أو العنفي كما يقوم بها البعض المشبوه في ارتباطاته تواطئاً أو تخاذلاً.
اليوم النضال المدني يمكن أن يردم الشروخ المجتمعية و يمكن أن يكون الأداة العابرة للحزبوية والاستقطابات الحادة والعبور لضفة الآمان المجتمعي للكُرد في سوريا عموماً وفي عفرين خصوصاً وهذا مانجده اليوم ملموساً بين أهلنا الذين عادوا لعفرين وقراهم وبلداتهم و داسوا على الشروخ التي أوصلت الوضع للتفكك المجتمعي وعودتهم وصمودهم أسطورة مجدٍ لهم سيكتبها التاريخ بحروفٍ من الذهب.
الفرق بين النضال المدني والحزبي السياسي
النضال المدني مهمته تلبية احتياجات الناس، والنضال الحزبي السياسي مهمته تلبية مطالب الناس، وهناك فرقٌ بين الاحتياجات و المطالب.
الاحتياج هو ضرورة البقاء والوجود وقاعدته كلّ المجتمع، والمطلب هو لتمكين الاستمرار والتقدم، وهذا يستوجب برامج وخطط توضع مسبقاً وقد لا يكون إجماع كلّ المجتمع.
هذا الفرق والاختلاف بينهما يستوجب بل ويحتم أيضاً فرق واختلاف في آلية التفكير وآلية العمل و نوع الأداة لكلّ منهما.. و يجب الحرص لعدم الخلط بينهما لأنه سيفشلهما كلاهما.
الاحتياج يمتلك كامل المشروعية ولا يحتاج لتشريعه من أحدٍ لتحقيقه ولا يستطيع أحد التشكيك بأحقية حصول الإنسان على احتياجاته، وللنضال من أجله يمكن طرق كلّ الأبواب والتحالف مع أيٍّ كان لتوفير وتأمين الاحتياج. بينما المطالب لا توفر هذه الإمكانية لأنه بالمطالب لن نجد الكلّ يتوافق معنا عليها، وقد لانكون نحن متفقين عليها جميعاً كمجتمع. النضال من أجل المطالب يحتاج أولاً إلى تقديم المشروعية لها وصياغة خطابها وهذه لا نحدّدها نحن بل تحدّدها القوانين الدولية وإذا خرجنا عنها سنصبح جهةً تخالف القوانين الدولية مع ما يترتب على ذلك من مضاعفاتٍ تضرّ بأحقية المطلب و حتى الوسم بالإرهاب ..
النضال من أجل المطالب في حال تمّ التمكّن من امتلاك مشروعيته وتثبيته . بعدها يحتاج لتضافر القوى الذاتية وثم حشد قوى المساندة له ليتضافر كلّ ذلك معاً لتحقيق المطلب وبدون ذلك لا يمكن تحقيق اامطلب.
بينما النضال المدني من أجل توفير الاحتياج لأصحابه يمكن لأيّ فردٍ أو مجموعةٍ القيام به وهي تحتاج فقط لفعالية الفرد أو المجموعة.
مثلاً في عفرين اليوم توفير الإغاثة هو احتياج.عودة الناس لبيوتها وأرضها هو إحتياج .اخراج المسلحين من التجمعات السكنية وسحب السلاح من المدنيين هو احتياج فرض سلطة القانون هو إحتياج، وقف التعديات على الأملاك الخاصة والعامة هو احتياج وإذا قمنا بربط هذه الاحتياجات بالمطالب سيجهض النضال المدني من أجلها ويؤدّي لعدم تحقيقها.
بينما مثلاً إزالة الاحتلالات هو مطلب، تثبيت حقوق الكُرد في الدستور هو مطلب، حل الأزمة السورية هو مطلب أما ربط عودة أهلنا الذي هو احتياج لهم ،بهذه المطالب يعني عدم عودتهم لأنه قد يطول حل الأزمة السورية سنين وعقود وهذا يعني خطف الناس لتنفيذ مشروع حزبي سياسي.
النضال المدني بإنجازه يشكّل القاعدة التي يمكن أن يستند لها النضال الحزبي السياسي لتحقيق مطالبه لاحقاً.
قبل كارثة عفرين لم نكن نعي أهمية النضال المدني. وضع عفرين فرض علينا امتلاك وعي النضال المدني.
هذا الكلام لا نقوله من باب الانتقاد للانتقاد إنما لأنّ النضال يحتاج الرؤية السليمة لكي يكون له جدوى وإلا سيكون آلاف الضحايا والتدمير المجتمعي وخسارات مادية لن تعوّض وهذا ماندفع ثمنه جميعاً كمجتمع وآثاره السلبية تنعكس علينا جميعاً.
أحزابنا وقيادات الأحزاب خصوصاً في السنوات الأخيرة حتى كارثة عفرين تؤشّر أننا نعاني من أميةٍ في أدوات النضال سواءً سياسية أو مدنية، ولا نستطيع التوفيق بين كلّ مرحلةٍ نضالية وأداتها، ونعمل باتكالية على ظروفٍ قد تحصل أو لاتحصل ، وإذا خرج أحد ليشخّص المرحلة بعلمية ويطرح الأداة المناسبة لها، عليه أن يتحمّل الهجوم عليه من حماة الهياكل وعبدة الأصنام التي لايسمح أن ينافسها فكر أو أداة جديدة.
النضال المدني هو في جانبٍ أصعب من النضال الحزبي السياسي وفي جانبٍ هو أسهل منه :
هو أصعب لانه يجب أن يكون استجابة مباشرة لحاجة الناس اللحظية المباشرة وتلبيتها لهم وهذه تحتاج التفاعل اللحظي معهم والتقاط مشترك المرحلة الجامع للكلّ .
هو سهلٌ لأنه لا يعتمد أطر تنظيمية بيروقراطية بل يعتمد التفاعل المباشر مع المجتمع في احتياجاته و يتخذ تجميع القوى بشكلٍ أفقي لا هرمي من أجل إنجاز مشترك المرحلة الجامع.
في الختام
من أجل عفرين نحتاج تشخيص المرحلة وأولويات النضال لها .. كلّ مرحلةٍ هي تفرض مشتركاتها وايضاً القوى المجتمعية التي من مصلحتها إنجاز تلك المشتركات.. بإنجاز مشتركات هذه المرحلة.. سندخل بعدها مرحلةً جديدة ومشتركات أيضاً جديدة وقوى مجتمعية قد لاتكون نفسها للمرحلة الأولى.. تراكم الإنجازات هو الانتصار..وفي عفرين اخترنا كما يقال النضال المملّ الذي يراكم الإنجازات الصغيرة …بعودة أسرة من التهجير و تسليم أرض و بيت لأسرة والحدّ من الانتهاكات والاعتداءات قدر الإمكان والإفراج عن معتقل وتأكيد كُردية عفرين وحماية السجل المدني والسجل العقاري
والضغط على الذين أخطؤوا بالقرارات التي أدّت للكارثة بالاعتراف بها والاعتذار لأهل عفرين وذلك سيعطي دفعاً قوياً ليستعيد مجتمع عفرين عافيته وماسبق نتركه للتاريخ ليحكم به.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد 297