آراء

* المخاض العثماني وانهيار الدولة *

وليد حاج عبدالقادر

( التقسيم وسياسة التفتيت والضم والإلحاق .. كُردستان أنموذجاً )
القسم التاسع

قبل سنين طويلة ، ومن ذكريات الدراما السورية، سأستذكر لا دريد اللحام ولا المرحوم نهاد قلعي وغيرهم من زملائهما الفنانين ، بل سأستذكر مسلسل صح النوم تأليف الفنان نهاد قلعي وتلك العبارة التي كان يصرّ قلعي على تكرارها كثيراً – إذا أردت أن تعرف ماذا يحدث في البرازيل عليك أن تعرف ماذا يحدث في إيطاليا ) وفي الواقع هي لحظات نبوغ عبقري من جهة ، وكذلك استكشاف جدالي في حقيقة ما سيحدث لاحقاً ( من ذات الزمن ) وصولاً ألى عصرنا ..

وسأختزل بهذه الكلمات قفزاً إلى متن الموضوع ، وإن لم يكن تجاهلاً بقدر ماهو ترسيخ معرفي يستند إلى الموضوعية التاريخية وعلى أسس من المصداقية في نقل وتدوين المجريات ، وهنا لابد من التذكير بالحقائق التي لا ولن تخفى على أي متابع لقضايا العالم عامةً والشرق الأوسط خاصةً ومن أولويات قضاياها – الشرق الأوسط – حيث من الضرورة أن نستذكر مقدم المئوية الأولى لاتفاق لوزان ، هذه المئوية التي وبالرغم من مساعي الدول المتحكمة والمتنفذة كما والموقعة عليها وبالتالي الضامنة الأساس في تطبيقها حينها والمفترضة أن تكون من أهم مهماتها العمل الجاد لتهيئة الظروف وتوجيه المجتمعات التي ستتمّ مرحلياً إنقاذها من غبن الإحتلال العثماني، وبالتالي تجهيزها المجتمعي للمرحلة الثانية، والتوكيد على ذلك في خاصية ضمانات المرحلة الجديدة القادمة .

وعليه وكما رأينا في الأقسام السابقة سواءً في المخاضات الأولية لهذه المرحلة ومن ثم تطبيقاتها المتتالية والتي أخذت تتتالى وبالهوينى ومع كلّ خطوة متقدمة إلى ذات المئوية، كانت المآلات تطفو لتطفح وتكشف حقيقة بمضامينها ، هذه المضامين وبالرغم من التداخلات الفظيعة ومن ثم منهجة الإلغاء والشطب كما الضمّ والإلحاق ، ورغم المتغيرات شبه اليومية للخرائط والحدود التي كانت قد تمّت تحديد مهلتها بمائة عام وبعدها من المفترض أن تتمّ مراجعتها وإعادة النظر فيها ، ولمجرد التدقيق فيما يجري من أحداث على خارطة الأحداث إن في منطقتنا أو العالم أجمع يستنتج منها بأنّ المنطقة لابدّ من أنها تتجه نحو مسارات مكشوفة قد تمّ الترتيب لها في الغرف المظلمة.

وهنا وعود على بدء في ترتيب متتاليات الأحداث والتي سنبدأ بها من مطلع كانون الثاني عام ١٩٢٠، حيث توصّل كلٌّ من فيصل وكليمنصو إلى اتفاقٍ سري حيث يمنح دولة فيصل العربية المرتقبة الإستقلال بشرط أن يكون مستشاروها فرنسيين ، وعلى إثر ذلك غادر فيصل إلى دمشق ليسعى بقدر استطاعته العمل على إقناع القيادة العربية بدمشق على قبول تلك الشروط ولكن .. كان لعدم نجاح كليمنصو في سعيه لرئاسة الجمهورية ومن ثم تولي الكسندر ميران رئاسة الحكومة والذي لم يرَ الحاجة بالسماح لسورية نيل استقلالها كما وعدم السماح لفيصل باعتلاء عرشها ١ والذي بدوره – فيصل – كان يأمل بنظام انتداب أمريكي أو بريطاني بتأييد أمريكي وبريطاني وصهيوني في مواجهة مطالب فرنسا ..

ولكنه في المحصلة تفاهم سراً مع كليمنصو رئيس وزراء فرنسا أن يصبح ملكاً على دولة سورية مستقلة وبوصاية فرنسية سلسة وسهلة الشروط .. ونجح فيصل في مفاوضاته والتوصل إلى التفاهم السري .. ومن ثم اتخذ فيصل منحى سوري وتواصل مع الأسر الدمشقية وأقنعهم لتأسيس – الحزب الوطني – وتبنّي المطالبة باستقلال سورية الكبرى ، وكل هذا في العلن ، ولكن ما خفي فقد كان فيصل مستعداً لقبول اتفاقية فيصل – كليمنصو ومعها قبول وجود فرنسي ، وفي الحقيقة فإنّ الحزب الوطني لم يكن مصراً عملياً على استقلال سورية استقلالاً تاماً، وفوراً مع بند سلس آخر : وهو الإستعداد للإعتراف بوطن قومي لليهود في فلسطين

٢ . وبناءً على هذه المعطيات نودي لانعقاد المؤتمر العام للأندية القومية لمواجهة طروحات الحزب الوطني ، وبالفعل انعقد المؤتمر في ٢٠ / ٣ / ١٩٢٠ والذي وافق وبشكلٍ فوري على إعلان دولة سورية مستقلة بشكلٍ تام ضمن حدودها الطبيعية، والتي تضمّ لبنان وفلسطين أيصاً ، وعلى رأسها فيصل ملكاً دستورياً

٣ .. ومقابلها أيضاً اجتمع فريق من أهل بلاد الرافدين لإعلان استقلال ولايتيهما – البصرة وبغداد – على أن يكون عبدالله شقيق فيصل ملكاً وعدّت كُردستان أو ماتسميه المخرجات العربية بلواء الموصل سيتمّ التفاهم معهم أيضاً .. وعليه : ففي بداية عام ١٩٢٠ وفي ( غضون أسابيع من تحدي مجلس النواب العثماني في القسطنطينية للحلفاء علناً وئلك ( بإعلان استقلال الجزء الناطق بالتركية من الإمبراطورية وطبيعي أن ينحى الجزء الناطق بالعربية وغيرهم أيضاً ذات المنحى )

٤ . ولكن ! ماتمّ في تاريخ ٢٧ / ٥ / ١٩٢٠ كان له تصرف آخر ، حيث أمرت باريس الجنرال غورو قاىد قواتها في بيروت بالإستعداد للحرب ضد فيصل وقواته ، وبالفعل بعث غورو من الباستيل بإنذاره المشهور وقد ضمنها شروطا صعبة ولم يتوقع مطلقاً أن يقبل الزعيم العربي تلك الشروط ، ولكن وبالرغم من أنّ فيصل قبل شروطه ! إلا أنّ غورو اعتبر الردّ غير كاف ، وعلى الرغم من استعجال فيصل في إرسال رد جديد آخر وقد عرض فيه الاستسلام من دون قيد أو شرط ، لكن غورو وبأمر وتوصية من قاىده – دوكي – رد : ( لقد فات الأوان ) وبالفعل أمر جيشه بالزحف على دمشق وليعلن رئيس وزرائها بأنّ فرنسا ستحتفظ من لحظة احتلالها وإلى الأبد .. ولتباشر فرنسا بتقسيم سورية إلى وحدات فرعية : لبنان الكبير الئي عدّ مقدمة لتشكل دولة لبنان الآن وقد أعلنها غورو بمسمى دولة لبنان الكبير

٥ ، والذي شمل أيضاً – الدولة – بالإضافة إلى متصرفيتها المعلنة في ١ / ٨ / ١٩٢٠ والذي يستقر فيها المسيحيون المشمولون بحماية فرنسا وكذلك أعدائهم الدروز التقليديين في مدن بيروت وطرابلس وصور الساحلية ووادي البقاع الطويل، ومع ضمّ هذه المناطق إلى لبنان أثر على التركيبة الديمغرافية حيث أضيف إليها عدد كبير من السكان المسلمين السنة والشيعة أيضاً

٦ . إن سهولة احتلال دمشق فضحت ادعاءات فيصل والقوميين العرب؛ كون هذه الإدعاءات لم تكن غير خدعة وبالفعل فاقعة كانت ومن ابتكار البريطانيين لتخدع الفرنسيين وتحرمهم من سورية ، هذا الأمر الذي عدّه الفرنسيون مشجباً يعلّقون عليها مشاجب كلّ الإضطرابات المناهضة لهم عليها ومعها بالتأكيد بريطانية ايضاً ، وعليه فقد كانت النتيجة في سورية ( .. إنّ كلّ الجهات وجّهت اللوم إلى البريطانيين، والفرنسيون لاموهم لتنثيبهم فيصل على العرش والعرب لاموهم لأنهم تخلّوا عن فيصل )

٧ . وفي العودة إلى العراق فإنّ الإدارة البريطانية لم ترَ في أمور ولايتي بلاد الرافدين على هذا النحو ، واتجهت الأمور لتتخذ منحى التوتر بين المجموعات الكُردية والقبائل البدوية وتعدّدت بؤر التوتر وبعضها تصاعدت بشكلٍ خطر ، وبناءً على ذلك رأت بريطانيا ( .. أنّ التحدي يكمن في التفكك والخصام بين السكان والفوضى المعتادة وليس في القومية المنظمة والكلام على الحكم الذاتي كان مصدره في الأغلب – متآمربن ذوي طباع ومطامح مريبة

٨ . وقد كتبت مساعدة الكولونيل آرنولد ويلسون ومساعدته توافقاً عام ١٩١٨ وصدّق على مذكرتها التي كتبت فيها ( .. وإنّ شعب بلاد الرافدين الذي شهد نهاية الحرب الموفقة ، اعتبر بقاء البلاد تحت الإشراف البريطاني أمراً مسلماً به ، وكان بمجموعه راضياً بقبول مايقرّره السلام ، كما البيانات الصادرة عن ويلسون وغيره تأييداً لتقرير المصير الوطني في مؤتمر الصلح ( فقد فتحت إمكانات أخرى ينظر إليها الجميع تقريباً نظرة قلق، ولكن هذه الإمكانات تتيح للعناصر الأقل استقراراً والأكثر تعصباً ، فرصاً للتآمر السياسي ( نقلاً من ه . ف .ف . وينستون جيرترود بل – لندن – جوناتان كيب ١٩٧٨ صفحة ٢٠٧ من الكتاب ) . وعندما أصدر مجلس الوزراء البريطاني تبعاً للمبادئ الأمريكية المأخوذة منها ، وعلى أقل تقدير المعمول بها في لندن تعليماته إلى ارنولد ويلسون أن يسأل شعوب بلاد الرافدين : ماهي الدول أو الحكومات التي ترغب هذه الشعوب في إقامتها في المنطقة ، وكان ردّ ويلسون أن لا سبيل إلى التقيد من معرفة الراي العام ..

وفي حين أنه كان مستعداً لإدارة الحكم في ولايتي البصرة وبغداد وكذلك الموصل ( التي كان لويد جورج قد انتزعها من المنطقة الفرنسية بموافقة كليمنصو ، وكان قد عزم على حرمان تركيا منها ) ، فلم يكن معتقداً أنّ هذه الولايات تشكّل كياناً متماسكاً ، حيث بدا له العراق ( وهي تسمية عربية استخدمها البريطانيون على نحو متزايد للدلالة على أراضي بلاد الرافدين ) أنه بالغ الشرذمة بحيث لا يمكن أن يشكّل كياناً متماسكاً.

إنّ أهمية ولاية الموصل الإستراتيجية جعلها تبدو إضافة ضرورية إلى العراق ، كما إن الاحتمال القوي لاحتوائها آبار نفط ذات أهمية كبيرة جعلها إضافة مرغوبة فيها ، غير أنها كانت جزءاً مما يعتقد أنها كُردستان .. وكان راي أرنولد ويلسون أنّ الأكراد ذوي النزعة الحربية الذين أخصعوا لإدارته لن يقبلوا إطلاقاً حاكماً عربياً ٩ .
يتبع
…………

هوامش :
١ – صفحة ٤٥٧ من كتاب سلام ما بعده سلام : الكاتب ديفيد ماكدولد
٢ – ذات المصدر :صفحة ٤٨٨ – ٤٨٩
٣ – ذات المصدر صفحة ٤٨٩ – ٤٩٠
٤ – ذات المصدر صفحة ٤٩١ – ٤٩٢
٥ – ذات المصدر صفحة ٤٩٢
٦ – ذات المصدر صفحة ٤٩٢ – ٤٩٣
٧ – ذات المصدر صفحة ٤٩٣
٨ – ذات المصدر صفحة ٥٠٣
٩ – ذات المصدر صفحة ٥٠٣ – ٥٠٤

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “319

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى