آراء

تحت سماء الليل الكوردي

قصة
بقلم : سولاف العمادي

كان الطريق لا زال غافياً في عتمة الغبش الجبلي وكثافة اشجار الجوز وجذوع الجنار الضخمة، بدأ الطريق يرتفع تدريجياً ويزداد وعورةً، انعطف بابير بحفيديه إلى اليمين، وارتقى صخرة مشذبة، وأزاح باباً مصنوعاً من أغصان الأشجار، ودخل هو وحفيداه إلى البستان٠

من وراء القمم الجبلية بدأت السماء تكتسي بذلك اللون الشفقي المبشّر بصباح يومٍ جديد، فامتلأ قلب الصبيين بالغبطة وجعلا يركضان بين شجيرات العنب وعناقيدها المتدلية٠

أخرج الرجل سلّتين من عريشة البستان وأعطاها للصغيرين ورنا بناظريه إلى القرية وقد لاحت له سقوفها الواطئة ، استعدّ ليوقد النار تحت قدرٍ كبير ملأه سابقاً بمادة قلوية مكونة من نقيع الرماد من أجل أن يحوّل العنب إلى زبيبٍ جعل يبحث في جيبه عن عود الثقاب وبعينيه يتابع الصبيين، رأى لمة الشعر الأشقر لفرهاد وهو ينحدر نحو المساطب المطلة على القرية في حين ذهب آزاد بالاتجاه المعاكس نحو مرتفع صخري تتسلقه شجيرات العنب، فجأة أصغى بسمعه لطنين يأتي من بعيد ما لبث أن اقترب واجتاح المكان وتيقّظت كلّ حواسه وهو يرى طائرتين عسكرتين في سماء القرية، تشوّشت أفكاره ودّ لو يطير ويحتضن الجميع آزاد وفرهاد والرضيع كوفان وگول بهار وخالتا خجو، ولكنه بقي متسمّراً هناك وهو يرى الدخان الأبيض ينداح عبر الفضاء بأذرع الموت المحمّلة برائحة التفاح يقبل إليه.

أفاق بابير من غيبوبته على أشعة الشمس وهي تلسع أجزاء من جسمه ، أحسّ برغبةٍ عارمة للتقيؤ، انقلب على وجهه واستفرغ محتويات معدته، ثم زحف بوهنٍ باتجاه الساقية وغمر رأسه بالماء، واستسلم لأصابع الماء تمسح عنه سموم الهواء.

وفجأةً لمعَ في ذهنه مصير حفيديه ، انتفض وحاول النهوض لكنه بقي يستفرغ معدته مرةً ثانية، أحسّ بتحسن طفيف عاد إلى العريشة زحفاً مرة ثانية وتلمّس عمودها ثم اتكأ بظهره عليه، ومن بين رموشه رأى وجه آزاد الشاحب أمامه .

أقبل الصبي واحتضن رأس جده المبلّل الى صدره.

قال له الجد : ابحث عن أخيك.

أجابه إنه هناك في الأسفل وحالته غير جيدة،، ماذا حدث يا جدي هل قامت القيامة؟

أجاب الجد : إنه الكفر بعينه يا بني.

كلّ شيء صامت ، الطيور الحشرات الفراشات الضفادع كلها توقّفت عن أي تغريد أو أزيز أو صفير أو نقيق ، ما عدا صوت الماء يجري ملتاعاً ناعياً وهو ينحدر إلى تلك السواقي المفجوعة المنتحبة٠

نهض الجدّ بعد أن تمالك نفسه لتفقّد حفيده فرهاد وغسل له وجهه جيداً بالماء وقرأ عليه سورة الفاتحة وآية الكرسي ونفخ بأنفاسه عليه وساعده آزاد في نقله للعريشة، اخرج رغيفين من الخبز داخل الزوادة وناولها لصبيين وجلس يحدّق في السماء كأنه يفضي بمواجعه لربّ السماء والأرض، عندما أحسّ أنه قد تحسّن من أعراض التسمم وبعد أن لملم أفكاره واستجمع قوته نهض وقال لآزاد (سيتحسّن أخيك إن شاء ألله.

وكان يريد أن يطمئنّ على كنّته والرضيع كوفان وباقي سكان القرية، انحدر بوهنٍ نحو تلك الدروب التي كانت تكتظّ بالحياة، ليس سوى الصمت فيها، صمتٌ عميقٌ مذبوحٌ ما عدا حفيف الهواء المتآمر وهو يرتطم بالأشجار َ والبيوت والزرائب، ثمة بقرة وحمار نافقين في مدخل القرية ودجاجات مبعثرة هنا وهناك بلا حياة، ولأول مرةٍ لم يشارك الذباب مأتم الحيوان هذا باقترابه من البيت تسارع وجيب قلبه وبالكاد استطاع أن يبلّل شفتيه دفع باب الدار متعمداً أن يحدث أكثر ما يمكن من ضوضاء بأمل أن تخرج گل بهار لاستقباله، جرّ قدميه جرّاً إلى الداخل، وطرق باب الغرفة ولم ينتظر أن تفتح له، ودخل بسرعةٍ ووجل، كانت هناك جالسةٌ أمام مهد الرضيع وقد انحنت عليه واحتضنته، حمد الله في سره، وظنّها هي ترضع الطفل ، اقترب وتنحنح وناداها ودار حول المهد، كان كلاهما متيبّساً و مزرقاً وفاقداً للحياة.

لطم رأسه بيديه، ودار في أرجاء الكوخ، وهو يصرخ الله أكبر، وتردّ القرية المذبوحة معه الله أكبر ،عاد مرةً ثانية وانتزع الرضيع من المهد وتلمّس وجنتيه الفاقدتين للحياة، وقبله واشتمّه ووضعه جانباً، وسحب كلبهار إلى جانب ابنها وخرج إلى تلك الدور المستباحة للموت برجالها ونسائها وأطفالها وحتى قططها وكلابها، بعد أن هدا هدير الأصوات في أذنيه ورأسه ووجيب قلبه المتسارع سيطرت على فكره واجبه تجاه الموتى وهو دفنهم بملابسهم وذلك ما هو ملزم به شرعاً ورغم يديه المرتجفتين وأنفاسه الواهنة الضعيفة قرر أن يحفر أولاً قبراً لكنته وحفيده ثم اختار أوطأ مكان في حفرة طبيعية وأراد أن يحفر عميقاً ويوسعها رغم تعرقه الشديد وضعفه ، واصل الحفر وقد جفّت دموعه وضاق تنفسه وأحسّ بالظلم الشديد،
فوجيء الرجل بظهور شكل غريب أمامه كانت خالتا خجو مولّدة القرية وأكبر معمّرة فيها آتية من مكان في القرية وقد تدلّى نصفها الأعلى ليصل إلى ركبتيها، وهي تجرّ قدميها ببطءٍ وتدخل الأبواب المشرعة للموت، ثم تخرج وهي تنشج بصوتها المبحوح وسوالفها البيضاء تواصل الحركة مع نشيج المرأة الطفولي، عندما رأته أقبلت نحوه بنفس الخطوات الوئيدة المرتجفة وجعلت تدور حول الحفرة وعويلها قد رجع بها إلى الطفولة عندما لا يملك الضعفاء لا الحول ولا القوة أمام سطوة الأقوياء وكان صوتها المشروخ لا ينبعث من حنجرتها وإنما من أعمق جزءٍ من إنسانيتها المهدورة، أحسّ الرجل بالإشفاق الشديد تجاهها، وقال مواسياً لنفسه ولها( لنا الله خالتا خجو لنا الله) .

في هذه الأثناء تعرّضت القرية لقصفٍ مدفعي ،خرج بابير من الحفرة وصاح بالعجوز : ( تعالي معي لنهرب من هنا .
لكنها لم تجبه، وتوجّهت للحفرة وفي عينيها نظرة يسكن بها الموت، وانزلقت إلى داخلها كأنها حسمت موقفها وشاءت أن تغادر هذا العالم المشؤوم التعس، كأنها تدين الوجود كله ..

من المرتفع المشرف على القرية رأي بابير تقدم الآليات والمدرعات وهي تكتسح الأشجار والبيوت والحظائر، وطمرت بهيكلها الحفرة التي استلقت بها خالتا خجو،

في المساء عاد إلى الطفلين لم ينبس بكلمة احتضنهما وهو يحدّق باللاشيء

في الصباح بحث عن بقايا الخبز القديم في العريشة، فكر أن يوفّر لهما الطعام بأي صورة كانت، فاكهة البستان ملوثة بالسموم، سار إلى الحافة المشرفة على القرية نظر إلى الجنود وآلياتهم ، انزلق عبر منحدر صغير يفضي إلى الطريق الممتد بين البساتين، واستقرّ على الطريق المنحدر نحو القرية، وفي المنعطف وعند الرحبة المتسعة رآهم هناك ثلاثة جنود كانوا يتفحّصون المنطقة، فكّر مع نفسه إنه مجرد رجل أعزل لا يشكّل أي خطرٍ عليهم وعندما تأكّدوا أنه لا يحمل أي سلاحٍ، ركضوا نحوه، أراد أن يوضّح لهم بعربية مهشمة وهو يشير إلى البستان ( عندي أطفال مرضى وجياع) ، سارع أحدهم وضربه بأخمص البندقية، تراجع باتجاه السياج الشوكي المرتفع، ولكنهم انهالوا عليه بأحذيتهم العسكرية وأعقاب البنادق ،حتى تداعى جسده الهرم ،وانتفض انتفاضته الأخيرة ، وسالت دماءه باتجاه الماء المنحدر ، ارتفعت لدى الجنود غريزة الصيد وانبعثت من ذاكرتهم الجمعية البعيدة وحناجرهم أهازيج الغزو والانتصار ، وساروا بالاتجاه الذي أشار إليه الشيخ العجوز وتسلّقوا المكان واقتحموا البستان بالاهازيج ورشقات البنادق، وجدوا فرهاد ممدداً بعينين ذابلتين، سحبه أحدهم ودفعه نحو الآخر ، وتقاذفوه كالكرة وبعد أن تعبوا انهالوا عليه بأخماص البنادق ، ٠

كان آزاد محشوراً في شقٍّ داخل صخرة كبيرة وثمة نباتات تحجب ما وراءها، استطاع من مكمنه أن يرى كل ما جرى وقد صكّ أسنانه وشبك يديه إلى صدره وأجزاء من نتوءات الصخرة تنغرس في جسده ، لا يعرف متى غادروا ،هل أغمي عليه أم غفا قليلاً أم تجمّد؟؟ إحساسه بالزمن ، بحذرٍ انسلّ من الشقّ، أصغى بسمعه ونظر حوله ، كان الليل المدلهمّ يغطّي أنفاس الجبال وثمة نجوم بعيدة تنبض بوهن حيادي بارد ، زحف خارج البستان وتلمّس الصخور وغذّ السير باتجاه القمم العالية، كان أحياناً يسقط في منخفض ما أو يصطدم بصخرة أو يعلق في شرك الأشواك ، و لكن رغم الدماء النازفة واصل الصعود تحت تلك السماء المدلهمّة المعادية لسماء الليل الكُردي .

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “319

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى