آراء

الواقع الكُردي السوري ومسؤولية الحركة السياسية

عبد الباسط سيدا

أوضاع الكُرد السوريين، التي تتقاطع مع الأوضاع السورية بصورة عامة، ليست على مايرام. فالوضع المعيشي بالغ الصعوبة نيتجة ظروف البلد، وعوامل الجفاف والفساد، والأزمة الاقتصادية العالمية الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا وتفاعلاتها وانعكاساتها؛ هذا بالإضافة إلى الشعور العام بعدم الاستقرار والمصير المجهول، إذ لا توجد حتى الآن مؤشرات توحي بإمكانية الوصول إلى حل للموضوع السوري يرتقي إلى مستوى تضحيات وتطلعات السوريين بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم وجهاتهم؛ وكل ذلك يضغط على الناس، ويسدّ الآفاق أمامهم، ويدفعهم نحو اليأس واللامبالاة، أو التفكير في الهجرة إذا ما مكّنتهم القدرات والفرص.

ولكن ما يميّز الواقع الكُردي مقارنةً مع واقع السوريين في المناطق الأخرى الخاضعة سواءً لنفوذ السلطة أم الروس أم الإيرانيين أو للنفوذ التركي؛ هو وجود إدارة ذاتية شكلية، يتحكّّم فيها فعلياً حزب العمال الكُردستاني عبر واجهاته المختلفة؛ وهو الحزب الذي ينسّق بصورةٍ مباشرة وغير مباشرة مع السلطة والروس والإيرانيين؛ ويحاول في الوقت ذاته أن يبدو في مظهر المتحالف مع الجانب الأمريكي والقوى الغربية في معارك محاربة الإرهاب. وغالباً ما تُسوّق هذه الإدارة إعلامياً بوصفها “إدارة كُردية”، بل أنّ الحزب المعني في سياق دعايته بين الكُرد يلعب على هذا الوتر. بينما يؤكّد في المقابل عبر لقاءاته واتصالاته مع مختلف القوى السورية سواءً في الموالاة أم المعارضة الطابع السوري لهذه الإدارة؛ بل ويقدّمها نموذجا كاملاً يمكن أن يُعتمد في المناطق السورية الأخرى. هذا بينما يعلم الجميع أنّ مفاتيح هذه الإدارة موجودة لدى قيادة الحزب المذكور في جبال قنديل حيث النفوذ الإيراني؛ ولعلّ هذا ما يفسّر حتى الآن الصمت الإيراني تجاه هذه الإدارة، بل يلقي الضوء على عمليات توزيع الأدوار والمهام في مختلف الميادين في المناطق الكُردية السورية وفي إقليم كُردستان العراق.

وفي سياق التنسيق مع السلطة في دمشق، فرض هذا الحزب التجنيد الإجباري في مناطق سيطرته، واستهدف الشباب الكُرد بصورةٍ أساسية؛ كما تدخّل في النظام التعليمي، وألزم المدارس بمناهج دراسية خاصة به، وذلك بهدف فرض حالةٍ من التجهيل على المجتمع الكُردي، ليتمكّن من خلال ذلك جعل اليافعين والشباب الكُرد فريسة لأيديولوجية تعدّ بهذه الصيغة أو تلك استمراراً للأيديولوجية البعثية التي فرضت على السوريين عبر واجهات حزب البعث المختلفة، مثل شبيبة الثورة، والطلائع، والجيش الشعبي، والاتحاد النسائي، واتحاد الطلبة وغيرها. كما تحكّم هذا الحزب بالموارد، ومارس، ويمارس كلّ الأساليب في سبيل استنزاف طاقات الناس المادية، وهي شحيحة أصلاً، وذلك عبر فرض الأتاوات والضرائب المزاجية والتلاعب باسعار المنتوجات الزراعية لا سيما الحبوب، وقد أدّت هذه الممارسات إلى تهجير نحو مليون كُردي أو أكثر من المناطق الكُردية، الأمر الذي ستكون له انعكاسات سلبية على الواقع الكُردي السوري في المدى المنظور، وعلى المدى البعيد.

وممّا ساهم، ويساهم، في تكريس هيمنة هذا الحزب وتغلغله ضمن المجتمع الكُردي السوري، هو ضعف وترهّل الأحزاب الكُردية السورية سواء الموجودة ضمن المجلس الوطني الكُردي أم تلك التي خرجت منه، أو التي لم تنضمّ إليه أصلاً. وأسباب ذلك كثيرة منها الانقسام السرطاني الذي تعاني منه تلك الأحزاب، فضلاً عن وضعية الجمود والتكلّس التي تتصف بها الكثير منها من جهة البرامج والسياسات والممارسات والتنظيم والتواصل مع الناس. هذا إلى جانب المحسوبيات وحالات الفساد والشللية التي ترهق الكثير من الأحزاب المعنية، وتعزلها على الصعيد الشعبي؛ وكلّ ذلك لا يساعد على تكوين وتقديم النموذج الجاذب.

ولعلّ هذا ما يفسّر ظاهرة عدم اهتمام الوسط الكُردي العام بما يجري اليوم من حديثٍ حول إمكانية إجراء اعتماد إصلاحات من شأنها تفعيل المجلس الوطني الكُردي بعض الشيء. إذ لا توجد قرائن أو دلائل توحي بإمكانية إنجاز خطوات عملية من شأنها تمهيد الطريق أمام المطلوب.

وما يضعف الآمال في هذا المجال هو أنّ وعود الإصلاح تأتي من جانب قياداتٍ لم تتمكّن اصلاً من إنجاز شيء على مدى عقودٍ ؛ بل أثبتت باستمرار عجزها خلال العقد الأخير، وعدم أهليتها لاستيعاب الوضعية المعقدة التي تعيشها المنطقة عموماً، وانعكاساتها وتفاعلاتها وتأثيراتها في الواقع الكُردي السوري. وهناك الكثير من الانتقادات والاتهامات التي توجّه إلى عددٍ من هذه القيادات، بعضها بينية، توجّهها قواعد أحزابها نفسها، وانتقادات أخرى توجّه من قبل الأوساط الشعبية التي تركّز على واقع عدم الكفاءة وحالات الفساد.

وفي هذا السياق ، كانت هناك محاولات ودعوات عديدة لإصلاح الأمور ضمن تلك الأحزاب سواءً عبر مشاريع الاتحاد أو التوحيد، أو من خلال الانفتاح على جمهور المستقلين الكَرد، والاستفادة من خبرة النخب الكُردية. ولكنّ تلك المحاولات أخفقت نتيجة حرص المستفيدين من الوضع القائم على اعتماد القواعد التي تكرّس استمراريتهم في مواقعهم، وهندسة المسائل بطريقة تمكّنهم من الحفاظ على امتيازاتهم رغم الانتقادات الكثيرة التي تعرّضوا، ويتعرّضون لها، وهي انتقادات تتمحور، كما أسلفنا، حول ضعف المؤهلات والخبرة والمصداقية ومستوى الإنجازات؛ هذا إلى جانب تلك الانتقادات المبنية على حالات الفساد التي لم تعدّ سراً يجهله الناس.

ومن الواضح أنّ هؤلاء المتنفّذين سيسعون بكلّ الوسائل من أجل استمرارية الوضع الحالي، طالما أنه يتوافق مع مصالحهم ونزعاتهم الشخصية. فهم يضعون أنفسهم في واقع الأمر خارج دائرة المساءلة والمحاسبة، ويتمسّكون بالشرعية الحزبية التي غالباً ما تكون حصيلة توافقات وصفقات بين أصحاب المصالح؛ ويعتبرون هذه الشرعية شرطاً ضرورياً وكافياً ليقدّموا أنفسهم بوصفهم الممثلين لإرادة الكَرد وتطلعاتهم من دون أية حيازة لشروط هذه الشرعية الشعبية سوى أنهم تمكّنوا نتيجة أسباب وظروف معينة من احتلال مواقع قيادية باتت بالنسبة لمعظمهم أبدية، وذلك في سياق لعبة التوزانات وتبادل المصالح والمواقع. وليست هناك انتخابات شعبية بأي شكل من الأشكال، كان من شأنها بيان حجم التأييد الشعبي الذي يتمتّعون به خارج الدوائر الحزبية.

هناك دعوات من جهات عدة تطالب بعقد مؤتمرعام خاص بالكُرد السوريين في سبيل معالجة الأزمة العميقة التي تعيشها الحركة السياسية الكُردية؛ وذلك للتعامل العقلاني المثمر مع التحديات الموجودة، والاستعداد لتلك المستقبلية. إلا أنه من الواضح أنّ شروط وعوامل نجاح مثل هذا المؤتمر ما زالت في ظل الأوضاع الحالية التي يعيشها الكُرد السوريون غير متوفرة.

ولكن في المقابل هناك إمكانية لعقد حوارات بين ممثلي تلك الأحزاب من الراغبين فعلاً في العلاج من خلال إجراء المراجعات، والاعتراف بالأخطاء التي كانت، والاستعداد لتحمّل المسؤولية، وبين المثقفين والاعلاميين والفعاليات المجتمعية والنشطاء والمهتمين ضمن أوساط المستقلين، وذلك في إطار لقاءات منظمة تستند إلى خطة إصلاحية متكاملة. على أن تعتمد حصيلة تلك الحوارات كخطة إصلاحية يتمّ الالتزام بها على مستوى الفعل، لا القول فحسب كما هو عليه الحال راهناً.

إلى جانب ذلك،هنالك إمكانية لعقد ندوات جماهيرية في الوطن وفي دول اللجوء والمهاجر ضمن نطاق خطة إصلاحية جادة؛ تكون بموجبها هذه الندوات ميداناً لحوارات بنّاءة، تُعتمد مخرجاتها لتكون أرضيةً لوضع برنامج اصلاحي عام، من شأنه رفع مستوى أداء المجلس، وتوسيع إطاره ليجسّد بالفعل لا بالشعارات، إرادة الكُرد السوريين وتطلعاتهم المنسجمة مع التوجّه الوطني السوري العام. أما الاستمرار في ما تعيشه الحركة السياسية الكُردية السورية حالياً فهذا مؤدّاه المزيد من التخبط والفشل والانقسام والقنوط.

 

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد (300)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى