آراء

داعش … أفول التنظيم لا يعني أفول الفكرة

د. محمد حبش

مع أنّ العالم أنجز تحالفاً من 85 دولةً للقضاء على داعش، وخاض بالفعل حروباً ضارية، ولكننا على مستوى الوعي لم نفعل ما يكفي للقضاء على تفكير داعش المسكون في ثقافتنا البائسة ، والذي نتوارثه دون وعيٍ بآثاره المدمّرة جيلاً بعد جيلٍ .
داعش مستمرّة في سلوكها خارج التاريخ والحضارة والإنسان، وحين قامت بإحراق مكتبة الموصل وتدمير متحفها؛ فإنها قامت بتصوير ذلك بتقنيةٍ فنية عالية، دون أي وخزة ضميرٍ ، وهم يعلمون أنّ هذه التماثيل لم يأتِ بها حزب البعث ولا المالكي ولا صدام حسين… إنها تاريخ العراق وحضارته، وهي جزء من صورة العراق العظيم ، وبقاؤها في العراق هذه القرون المتطاولة أوضحُ الأدلة على قدرة الإسلام على التعايش والتواصل مع العالم المختلف…

لقد دخل العراق في الإسلام أيام الصحابة ، وقام الإمام علي بنقل العاصمة من المدينة إلى الكوفة ، وكانت أول خطوة باتجاه منح الفقه الإسلامي بعداً حضارياً أعمق من الحجاز ، وكلّف الأمويون أشدّ رجالهم عزماً وحزماً، لحكم العراق ،ومرّ بالعراق العباسيون والبويهيون والسلاجقة والحمدانيون والخوارزميون والأرتقيون والزنكيون والعثمانيون… ولكلّ دولةٍ علماؤها وفقهاؤها ومدارسها، من المذاهب الأربعة ومن سواها، وقلّ أن يذكر في الإسلام عالمٌ لم يمرّ ببغداد أو يهاجر إليها، ولم يقم أحد منهم بهدم تاريخ العراق وحضارته، ولم نسمع في تاريخ هذه الدول كلها أنّ كنيسةً أجبِر أصحابها على تغيير دينهم واعتناق الإسلام، أو أنّ مكتبةً أحرِقت أو دُمّرت لأنها تحتوي على كتب شركية (إلا ما قام به المغول يوم سقوط بغداد 1258م)
من تاريخ العراق العظيم نروي بفخرٍ أنّ الخليفة المأمون أسّس دار الحكمة، وكان من أشهر ما قامت به دار الحكمة أنها كانت تترجم ثقافات الأمم، وكان المأمون ربما دفع ثمن الكتاب ذهباً لمترجميه؛ إذا كان فيه إضافة حقيقية للمعرفة، ولا شكّ أنّ الكتب التي اشتريت بالذهب في العراق لم تكن كتب الحديث والتفسير والسيرة ؛ بل كانت كتب الفلسفة والهيئة والارتماطيقي والاقرباذين وغيرها من العلوم اليونانية والرومانية والهندية، ومن المؤكّد أنها كانت كتباً تتناقض بشكلٍ صريح مع العقيدة الإسلامية، وتقدّم الأدلة على الهيولى وقدم العالم وغيرها من العقائد التي يصفها الظاهرية دون تردد بالشركية والوثنية، ومع ذلك فقد أفسح لها الخلفاء قلباً وصدراً وكانت جزءاً من برنامج معرفي حكيم ترعاه الدولة.

لقد ظلّ العراق خلال التاريخ متحفاً للأديان، وبالرغم من أنه شهد أكبر فترةٍ في التاريخ عاصمة للخلافة الإسلامية فقد ظلّت بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية 526 سنة، يُضاف اليها ست سنوات خلافة علي بن أبي طالب، وكانت هذه الفترة كافية لجعل العراق بيوريتانياً بالمطلق في انتمائه الديني، ولكن الأمة لم تختر هذا… ومع ذلك فقد ظلّ العراق موئلاً للأديان، وعاش فيه مسلمون ومسيحيون ويهود وزرادشتيون وصابئة مندائيون وصابئة حرانيون وإيزيديون وبهائيون، ولكلّ ديانة طوائف ومذاهب، ولهذه الطوائف في العراق معابدها ومعالمها، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً…

وبالمناسبة فهذه الآية واضحة وصريحة في أنّ مسؤولية الأمة المسلمة الحفاظ على الكنائس والبيع والصلوات ، وهذه كلها معابد الآخرين، ومن المؤكد أنها تحتوي على تماثيل وصلبان وأيقونات، ونحن مأمورون بنص القرآن الكريم بالحفاظ عليها.
كيف يتمكّن هذا التنظيم من إقناع الناس بأنّ الأمة لم تقم بتنفيذ شريعة الله خلال أربعة عشر قرناً، وأنّ البغدادي اليوم يقوم بما قصر فيه علماء التاريخ الإسلامي وفقهاؤه من الصحابة والتابعين والأئمة الذين لا يحصون عدداً؟

من المؤلم القول إنّ هذا السلوك لم يولد من فراغٍ، وإنما سبقه تمهيد طويل شاركنا فيه جميعاً دون أن ندري، وقامت مدارسنا الدينية وخطابنا الإسلامي بالترويج لثقافة وجوب اتباع ظاهر النص، ولو خالف العقل والمنطق والعرف، وقمنا عن عمدٍ بنشر بحوث مطولة عن وهن العقل وعجزه، وضلال العرف وفساده، واقنعنا الجيل كله بأنّ أكثر الناس لا يفقهون ولا يعقلون ولا يبصرون، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً.

يمكننا أن نتصوّر الأمر مخبرياً على طريقة بافلوف، فحين نزجّ أطفالنا في مقاعد الدراسة، ونطوّقهم بثقافة الهول والفزع، التي تبدأ من مشهد النار التي سيحرقنا الله فيها إذا لم نسمع كلمة أمهاتنا، إلى النصوص الإطلاقية التي لا تناقش، كقاعدة لا اجتهاد في مورد النص، وكلّ جديدٍ بدعةٌ، وصالح لكلّ زمانٍ ومكان، وإذا صحّ الحديث فاضربوا بعقولكم عرض الحائط، وكلّ بدعة ضلالة، ثم نحملهم على أنّ النص فيه خبر من قبلكم ونبأ من بعدكم وحكم ما بينكم، وأنّ القرآن هو مجمع العلوم كلها، وكلّ علم ليس في كتاب الله فهو لغو وباطل، وغير ذلك من الصيغ الإطلاقية التي تزاحم العقل في رسالته وتفرض على العالم الخضوع لتأويل القدماء.

ثم تتدفّق بعد ذلك مواهب الإعجازيين الذين يرون في كلّ كلمةٍ في القرآن إعجازاً وإدهاشاً وهو سلوك يستوي فيه أهل التقليد وأهل التجديد، فيستدلّ الأولون به على الأرض المسطحة، ويستدلّ الآخرون على الأرض الكروية، ويستدلّ به قومٌ على دوران الأرض وآخرون على ثباتها وقراراها، ومؤخراً يستدلّ علي الكيالي في قناة دبي بالقرآن والسنة على قوة الدفع النفاث بطريقةٍ يخجل المرء من روايتها، ويرى كلّ فريقٍ نفسه مدهشا في الاستنباط والاحتجاج والوقوف عند دقائق الألفاظ.
بعد تربيةٍ طويلة على هذا يمارسها آلاف الواعظين فستكون رواية واحدة (بعثني رسول الله على أن لا أدع تمثالاً إلا سويته ولا صورة إلا طمستها) كافية لإقناعه بالانخراط في سرايا هدم التماثيل وحرق الفنون وتفجير المتاحف في كلّ زمان ومكان، ومطاردة الوثنيين والمشركين من الفنّانين والمسرحيين وحرّاس المتاحف، وهل هناك معنى للرسالة أوضح من كسر الأصنام؟؟؟؟

وستكون رواية نص واحد مثل: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله…. كافية لاعتبار الانتساب إلى هذه الجماعات المحاربة وقتال الناس لإرغامهم على التوحيد عملاً مبروراً وسعياً مشكوراً وتجارة لن تبور…. ولتذهب كلّ مقاصد الإسلام الكبرى من الحرية والمحبة والخير والسلام والإخاء والتنمية إلى الجحيم.

متى يعود القرآن الكريم إلى مكانه الصحيح في ضمائر الأمة كتاب هدى ونور يقدّم تجارب الأمم الأولى، ولكنه في أمره ونهيه موصول بالزمان والمكان الذي نزل فيه، يعرض له النسخ والتأويل والتقييد والتخصيص كما يعرض لكلّ نص قديم، ونكف عن فرضه على العقل كتاب فيزياء وجغرافيا وقانون، يلغي الإنسان كله، ويعود بالحاكمية إلى السدنة والأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله في الخير والمحبة والتسامح بين عياله.

مأساة اختصرها إقبال بقوله:
فإلى متى صمتي وحولي أمة يل
هو بها السلطان والدرويش
هذا بسبحته وذاك بسيفـــــــه وكلاهمـــــــا مما نكدُّ يعيش

المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 300

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى